للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعراب سليم وهلال الدمار، وإنه ليبكى بكاء لا ينقطع للوطن وما صار إليه من الوحدة الموحشة فلا حبيب ولا جار، ويدعو للقيروانين: القيروان وتونس أو القيروان وصبرة المذكورة فى الأبيات وكانت بلدة كبيرة قريبة منها، يدعو لهما أن يزايلهما ما غشى الأبصار فيهما من مرض الهدم والتخريب. ويعجب أن تغنى الطير فى غير أيكها وقد بعدت عنها أوكارها وفراخها الصغار، إنه وأمثاله من شعراء العدوة القصوى لا يستطيعون الغناء إلا أن يكون بكاء وأنينا.

وتلوح له بروق من نحو صبرة وهى بروق خلب، ليس فيها أمطار إلا دموعه، ويتمنى جرعة ماء من حنيات تونس ولو قدر ما يحمل منقار طير من الماء حتى يشفى به أو صاب نفسه وفؤاده. ويقول الشاعر الحفصى ابن عريبة يتشوق إلى المهدية وأهله بها (١):

أقول لركب قافل عن معرّس ... بجمّة تردى بالحمول مشاحجه (٢)

لك الله أمتعنا عن البلد الذى ... أكابره أسلافنا وأبالجه (٣)

وعن وطن لولا العلا وطلابها ... لعزّ على مثواى أنّى خارجه

وشاطئه أنّى تنوّع حسنه ... وخضرمه أنّى تدفّع مائجه

سلام على المهديّتين ففيهما ... أب بنت عنه قاصر الخطو هادجه (٤)

وهو يقول لركب راجع من منزله آخر الليل بجمة جارة المهدية، وبغاله تضرب الأرض بحوافرها لثقل ما تحمله: لك الله أخبرنا وأمتعنا عن البلد الذى يتميز رجاله ببلج وجوههم وطلاقتها وبشرها، وحدثنا عن هذا الوطن الذى اضطررنا إلى تركه فى طلب العلا وعن شاطئه المتنوع الحسن وخضرمه أو بحره الذى تتدافع أمواجه. ويهدى المهدية وأختها (صبرة) سلامه، ففيهما أبوه الذى تركه واهن العظم قاصر الخطو يتهدج فى مشيه مرتعشا، وإنه ليمتلئ عليه برا وشفقة. ويقول حمودة بن عبد العزيز أحد رجالات الدولة الحسينية المتوفى سنة ١٢٠٢ هـ‍/١٧٨٨ م متشوقا فى الغربة إلى أهله بتونس (٥):

مللت دهرى وملّتنى حوادثه ... فبعدكم ليس لى فى العيش من أرب

لهفى على زمن لا بل على سكن ... عهدتهم منتهى الآمال والطّلب

كم ليلة بعدهم قد بتّ أسهرها ... أشابت الرأس منى وهى لم تشب

كأنّ أفلاكها من طول ما انقلبت ... ألقت عصاها لما لاقت من التعب


(١) الحلل السندسية ٢/ ٥٠٥ ومجمل تاريخ الأدب التونسى ص ١٩٧.
(٢) تردى: تضرب الأرض بالحوافر. المشاحج: البغال
(٣) أبالجه جمع أبلج: الناضر وجهه بشرا.
(٤) الهادج: الماشى متثاقلا فى ضعف وارتعاش.
(٥) مجمل تاريخ الأدب التونسى ص ٢٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>