للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يقول إنه ملّ دهره وما تقلب فيه من أحداث السياسة حتى لم يعد له بعد أهله فى العيش من أرب. ويذكر أيام أن كان يقضى زمنه مع أهله وهم كل مناه من دنياه، وقد أصبح بعدهم يعيش مسهدا مفكرا فيما بلته به الليالى، ويتخيل كأن أفلاكها من طول ما سارت ألقت عصاها واستراحت لا تبرح ولا تريم لشدة ما عانت من التعب والمشقة. وحرى بى فى ختام حديثى عن الغربة وتشوق القيروانيين والتونسيين فيها إلى ديارهم أن أشير إلى أنهم كثيرا ما تشوقوا إلى الديار التى بارحوها إلى وطنهم، ومن أهم الأقطار التى كانت تملأ نفوسهم بها صبابة بما تمتعوا به فيها وبمناظرها الطبيعية الفاتنة مصر، وكان الكاتب الرقيق الذى مرت ترجمته كثيرا ما يكلفه حكام الدولة الصنهاجية بسفارات إليها، وله رائية يتشوق فيها إليها وإلى ساكنيها أشاد بها ياقوت فى ترجمته، وأهم منها قصيدة لأبى الفضل يوسف بن محمد المعروف باسم ابن النحوى، وكان قد حج، وفى رجوعه افتتن بمصر وبنيلها وطبيعتها فنظم تلك القصيدة يصور تشوقه إلى ديارها ومشاهدها الفاتنة وفيها يقول (١):

حدّثانى عن نيل مصر فإنى ... منذ فارقته إلى الماء صادى

والرياض التى على جانبيه ... واجعلاه من الأحاديث زادى

إن مصرا لها معان لعمرى ... قد تأبّت على جميع البلاد

هذه الأرض إنما هى ناد ... مصر من بينها سراج النادى

وهو منذ فارق مصر ونيلها الكوثر-كما يقول شوقى-ظامئ إلى جرعة ماء منها، وقد خلبته رياضها وورودها ورياحينها، ويقول إن مصر حظيت بمعان ومشاهد لم تحظ بها سائر البلاد، ويتصور المعمورة جميعها ناديا ومصر سراج النادى. وهى تحية كريمة لمصر من تونسى يوثّق العلاقة بين الشعبين من قديم.

وتكثر الشكوى على ألسنة القيروانيين والتونسيين، مثلهم فى ذلك مثل لداتهم من شعراء الأقاليم العربية، فهم يشكون مثلهم من الدهر وما يصيبهم من بلائه وأرزائه، ويشكون من الإخوان أنانيتهم وعدم وفائهم، ومن طريف شكواهم من الدهر وصروفه ونوائبه قول إبراهيم الحصرى صاحب «زهر الآداب» وغيره من التآليف الرائعة والتصانيف الفائقة كما يقول ابن (٢) بسام:

تلاحظنى صروف الدّهر شزرا ... كأنّ علىّ للأيام وترا

وفى عينى دموع ليس ترقا (٣) ... وفى قلبى صدوع ليس تبرا


(١) الخريدة (قسم شعراء المغرب-طبع تونس) ١/ ٣٢٥.
(٢) الذخيرة القسم الرابع ص ٥٩٤
(٣) رقأ الدمع: جفّ بعد جريانه.

<<  <  ج: ص:  >  >>