سنة ٧٧١ بلسان السلطان الغنى بالله، كما ذكرنا، وفيها يصور للرسول الكريم تنكيله بحملة الصليب فى غير موقعة بعونه وجاهه، مع الاعتذار عن شد الرحال إليه لانشغاله بجهاد الطغاة البغاة. وكانت توجّه إلى الروضة الشريفة من أطراف العالم الإسلامى رسائل نبوية مماثلة لما قدمناه ممجدة له ومتشفعة إليه فى الأغراض الدنيوية والأخروية، غير أنها كثرت فى الأندلس لبعد الديار واتصال الحروب هناك مع أعداء الدين الحنيف، وحرىّ بنا أن نتوقف قليلا عند ابن الجنان.
ابن (١) الجنّان
هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصارى المعروف باسم ابن الجنان، من أهل مرسية فى شرقى الأندلس نشأ بها وحفظ القرآن الكريم واختلف إلى حلقات شيوخها ونهل منها كل ما استطاع من علوم دينية وآداب عربية، وفيه يقول ابن الخطيب:«كان محمد راوية ضابطا، كاتبا بليغا وشاعرا بارعا» ويقول الغبرينى: «كان من أهل الرواية والدراية والحفظ والإتقان فقيها وكاتبا بارعا وأديبا». وكان مفرطا فى القصر حتى يظن مبصره أنه طفل ابن ثمانية أعوام. ولفضله وأدبه استكتبه المتوكل بن هود حين ملك مرسية سنة ٦٢٥. وضاق بهذا العمل فتركه وحين تمكن العدو من قبضته على مرسية، سنة ٦٤٠ خرج منها واستقر بمدينة أريولة شمالى مرسية. وسمع به ابن خلاص صاحب سبتة على الزقاق، فاستدعاه، ولبىّ دعوته، وأكرمه وحظى عنده، ونراه يتوجه إلى مدينة بجاية بإفريقية ويستقر بها إلى أن لبّى نداء ربه فى عشر الخمسين وستمائة.
وكان ابن الجنان شاعرا مبدعا كما كان كاتبا محسنا، ويقول ابن الخطيب «له فى الزهد ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم بدائع، ونظم فى المواعظ للمذكرين كثيرا» وأنشد المقرى له فى الجزء السابع كثيرا من مدائحه النبوية، وهو يسترسل فيها متحدثا عن شمائل الرسول وخصاله الكريمة ومعجزاته الباهرة ونبوته وقدسيته ومرتبته العليا بين الرسل وشفاعته لأمته يوم الحشر، وينشد له المقرى مخمسا نبويا طريفا يستهله على هذا النحو:
الله زاد محمدا تكريما ... وحباه فضلا من لدنه عظيما
واختصّه فى المرسلين كريما ... ذا رأفة بالمؤمنين رحيما
صلّوا عليه وسلّموا تسليما
(١) انظر فى ترجمة ابن الجنان ورسائله ومواعظه ومدائحه النبوية الإحاطة ٢/ ٣٤٨ وعنوان الدراية للغبرينى ٢١٣ ونفح الطيب ٧/ ٤١٥ وما بعدها.