للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التى ردّدها بعض الصوفية ذاهبين إلى أن الروح المحمدية سبقت فى الوجود صورة محمد الجسدية، وهو بذلك يسبق آدم، بل يسبق جميع الكائنات وكأنه مبدأ الرسل وخاتمهم، بل مبدأ الوجود جميعه، فكل نور فى الكون مستمد من نوره ومستعار منه. ويستمر ابن الخطيب فى هذا التمجيد متحدثا عن معجزات الرسول، قائلا إن الرسالة من عتيق شفاعته وعبد طاعته. ويصور تشوق أبى الحجاج إلى الاكتحال بمشهد روضته الشريفة، حتى يطفئ غلته ويسكن لوعته، ويعتذر بجهاده لحملة الصليب وما يلقى فى هذا الجهاد هو وجنوده من أهوال تعوقه عن أن يشد الرحال إلى الروضة العبقة الطاهرة، يقول:

«عاقتنى عن زيارتك العوائق إذ أصبحت بين عدوّ تتكاثف أفواجه، ويحجب الشمس عند الظهيرة عجاجه (١)، فى طائفة من المؤمنين بك وطّنوا على الصبر نفوسهم، وجعلوا التوكل على الله وعليك لبوسهم، واستعذبوا فى مرضاة الله تعالى ومرضاتك بوسهم، يطيرون من هيعة (٢) إلى أخرى، ويتلفّتون والمخاوف يمنى ويسرى، ويقارعون -وهم الفئة القليلة-جموعا كجموع قيصر وكسرى، قد باعوا من الله تعالى الحياة الدنيا، لأن تكون كلمة الله تعالى هى العليا، فياله من سرب مروع، ودعاء إلى الله وإليك مرفوع، وصبية حمر الحواصل (٣)، تخفق فوق أوكارها أجنحة المناصل (٤)، والصليب قد تمطّى ومدّ ذراعيه. . وما ضعفت البصائر ولا ساءت الظنون، وما وعد به الشهداء تعتقده القلوب حتى تكاد تراه العيون إلى أن نلقاك غدا إن شاء الله وقد أبلينا العذر، وأعملنا فى سبيل الله وسبيلك البيض والسّمر (٥)، وأرغمنا الكفر».

وهذه القطعة من الرسالة تصور الجهود المضنية التى كان يبذلها مسلمو الأندلس فى جهاد حملة الصليب، وقد جاءوهم-كالذرّ عند انتشاره-من شمالى إسبانيا ومن البلدان الأوربية، يريدون أن يقتلعوهم من البقية الباقية من ديارهم. وتستبسل الفئة القليلة أمام تلك الجموع الغفيرة نحو ثلاثة قرون متطاولة، بائعة أنفسها لربها متزاحمة على حياض الاستشهاد لنصرة دينه حتى تكون كلمته هى العليا، وحملة الصليب ما ينون يغيرون وما تنى سحب سيوفهم تتجمع فوق ديارهم وأوكار أفلاذ أكبادهم، والفئة القليلة تنازلهم مستميتة نزالا ضاريا وكثيرا ما دقّت أعناقهم دقا. والرسالة الثانية للسان الدين كتبها


(١) عجاجه: غباره.
(٢) هيعة: صيحة.
(٣) حمر الحواصل: تشبيه لأطفال غرناطة بصغار الطير حين تكون حمراء الحواصل ولا تستطيع الطيران.
(٤) المناصل: جمع منصل: السيف.
(٥) البيض: السيوف. السمر: الرماح.

<<  <  ج: ص:  >  >>