للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[رسالتا ابن زيدون: الهزلية والجدية]

ابن زيدون هو أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومى، القرطبى، وقد مرت ترجمته بين شعراء الغزل فى الفصل الرابع، وقلنا هناك إن حادثين كبيرين أثرا فى حياته، أولهما تبادله فى شبابه الحب مع الشاعرة ولادة بنت الخليفة المستكفى واتصال هذا الحب بينهما فترة ثم هجرها له إلى الأبد بسبب ما لا حظته من مغازلته إحدى جواريها، وقيل بل بسبب نقده لبعض شعرها، وقد يكون للسببين جميعا. وظل ابن زيدون يبكى حبها ووصلها طويلا، وكلفت بعده بشخص كان يختلف مع غيره من شباب قرطبة إلى منتداها هو ابن عبدوس، وهو موضوع رسالة ابن زيدون الهزلية. والحادث الكبير الثانى الذى كان له تأثير فى حياته، هو سخط أبى الحزم جهور أمير قرطبة عليه والزجّ به فى غياهب السجون مما جعله يستعطفه مرارا إلى أن عفا عنه وردّ إليه حريته بشفاعة ابنه أبى الوليد، وفى استعطافه كتب رسالته الجدية، وحرىّ بنا أن نتحدث عن الرسالتين جميعا: الهزلية والجدية.

(أ) الرسالة (١) الهزلية

كتب ابن زيدون هذه الرسالة على لسان ولاّدة إلى ابن عبدوس منافسه فى حبها متهكما به ساخرا منه سخريات لاذعة، وما يمضى القارئ فيها حتى يشعر بوضوح أنه استوحى فيها رسالة التربيع والتدوير للجاحظ التى سخر فيها من كاتب معاصر له يسمى أحمد بن عبد الوهاب كان يكثر من ذمه وثلبه، فوصفه بأنه مربع مدوّر، وظل فى نحو خمسين صفحة من القطع الكبير يخلع عليه صورا ساخرة من الجمال وصورا أخرى ساخرة من المعرفة، تتخذ شكل أسئلة فى تاريخ العرب والأمم القديمة وفى العلوم كيمياء وغير كيمياء وفى الحيوان والجماد وفى الفلسفة والمنطق مع سؤاله عن أسماء كثيرين من الرجال عربا وغير عرب فى ميادين الثقافات المختلفة. وكأن ابن زيدون رأى أن يجاريه فى رسالته، إذ مضى على شاكلته يكثر من أسماء الرجال وما يتصل بهم من التاريخ والأخبار والأحداث، مع محاولته الواضحة فى أن يكون لرسالته سماتها الخاصة لا فى طريقة عرضه لأسماء الرجال بها فحسب، بل أيضا بما أكثر فيها من ضرب الأمثال ونثر


(١) انظر هذه الرسالة وتعليقنا عليها فى كتابنا عن ابن زيدون (طبع دار المعارف) وراجع شرح ابن نباتة لها فى كتاب: سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون. ومرت مصادر ابن زيدون فى ترجمته بالفصل الماضى.

<<  <  ج: ص:  >  >>