للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالذم من يفترشها مغتبطا بها، إذ لا يفترشها إلا الشيوخ الجلّة من العلماء ذوى المهابة والوقار، يقول:

«لا تجد مفترشا لها إلا شيخا رائع الوسامة، أبيض الشّعرة، أنس إخوانه، وحلس (ملازم) أسطوانه (١)، قد حفظ المسائل وملأ من إجازات الشيوخ الخزائن، تقصده الفتيات والفتيان، وتفدّيه الجارات والجيران، ويتنافس فى حضوره أيّام الزّفاف، ويختصّ بصدور المجالس وطيّبات الصحاف، أو معلما. . قد ائتمنته الملوك على ثمار قلوبها وعماد ظهورها وقطع أكبادها، يقعد عنده الورّاقون، ويتحاكم إليه فى الخطوط الناسخون، فإذا كانت أيام الأخمسة والجمعات أطال قلنساته (٢)، ووالى الزيارة بمنساته (٣)، وسار مهينما (٤) بتسبيحه وتقديسه وتهليله وتحميده، يزور الإخوان والمعارف، والكل هشّ إليه، مقبل عليه. فإن عارضت هذا الجنس ضاقت عليك الأرض، وأخوك من صدقك، ومحبك من نصحك».

والرسالة تصوّر قدرة ابن برد على صنع الأدلة والبراهين بحيث يأخذ على عائبه فى استخدام جلود الشياه كل المسالك، فهى تدل على فضيلتى التواضع والقناعة بالقياس إلى البسط والسجاجيد الفاخرة والحشايا الثمينة المزدانة. ومما يميزها دفء فروتها فى الشتاء القارس، وليونتها فى المسّ وخفتها فى الحمل والانتقال من موضع إلى موضع. ثم هى لا تحتاج مثل الحشايا والبسط إلى تبطين كما لا تحتاج إلى ترقيع. ثم يعرض ابن برد صورة الخياط، وهو يساوم صاحب الحشية أو السجادة فى أجرة الترقيع والتبطين مخجلا له أمام الناس، ويتفقان على الأجر. وما يزال الخياط يرجئ إنجازه لما يراد منه من تبطين أو ترقيع، ويظل صاحب الحشية أو السجادة يتردد عليه، وجبينه يرشح عرقا من ذل التكرار عليه، والخياط-مع إلحاحه عليه-منصرف عنه مع سوء وقفته أمامه، مشغول بمحادثة صبيانه أو عماله وكأنما يجد فى ذلك متعة له. وهى صورة بديعة تدل على روعة خيال ابن برد مع جمال الصياغة، وهو جمال يطرد فى نثره لما يعمه من نقاء فى اللفظ وصفاء وعذوبة.


(١) يريد أنه عالم يلازم عمودا فى المسجد يلقى محاضرته عنده ويتحلق حوله الطلاب لشهرته.
(٢) قلنسات: جمع قلنسوة.
(٣) المنسأة: عصا غليظة تكون مع الراعى يهش بها على غنمه.
(٤) مهينما: هامسا.

<<  <  ج: ص:  >  >>