وينوح محزونا لفراق أليفته، وهو يقول فى مطلع مقطوعته إن هدير الهديل هاجه شوقا إلى محبوبته، وتروعه صورته الجميلة فيرسمها رسما دقيقا، فطوقه فستقى اللون وصدره لازوردى أو أزرق بنفسجى وعنقه موشّى وظهره وريشه الطويل أسود ضارب إلى الحمرة، وقد أدار فوق طوقه لؤلؤتى عينيه، ومن حولهما أهداب ذهبية. وحدّ منقاره أسود داج كأنه سنّ قلم من فضة غمس فى مداد شديد السواد. وقد توسد من فرع الأراكة منصة، ومال برأسه محزونا على أحد جناحيه وما يحف به من النحر. وأحسّ الشاعر أنه- مثله-حزين مهموم لفراق صاحبته فانهمرت دموعه، وحانت من الهديل التفاتة فرآه يبكى واحتار ماذا يصنع، ولم يلبث أن بسط جناحيه وحركهما طائرا، فطار قلبه معه. وهو تصوير بديع استطاع فيه ابن حصن أن يسوّى منه لوحة تامة الخطوط والألوان والظلال والأضواء. ومما أعجب به ابن بسام من شعره قوله فى وصف سحابة:
بكرت سحرة قبيل الذّهاب ... تنفض المسك عن جناح الغراب
واستعارة الغراب لليل معروفة قديما ولكن الرائع أنه جعل السحابة بأمطارها تنفض المسك الأسود عن جناحه. وفى ذلك كله ما يدل على أن ابن حصن كان من شعراء الأندلس المبدعين.
أميّة (١) بن أبى الصلت
هو أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت الأندلسى، ولد سنة ٤٦٠ بمدينة دانية على البحر المتوسط، وشبّ-على ما يبدو-بمدينة إشبيلية وكانت تزخر بطائفة من الفقهاء والأطباء والمتفلسفة والشعراء وأصحاب الموسيقى، وتخرّج على أيديهم طبيبا متفلسفا وشاعرا بارعا يثقف الموسيقى وتلاحينها الأندلسية. وفى أوائل العقد الثالث من حياته هاجر عن مدينته إلى المشرق مصطحبا والدته، وقد تكون الرغبة فى التزود من علماء المشرق أو الرغبة فى الحج من دواعى تلك الهجرة المبكرة عن مدينته. ونزل المهدية بجوار القيروان، ويبدو أنه كان قد وفد عليها لمديح أميرها وأمير إفريقية تميم بن المعز
(١) انظر فى أمية وترجمته وشعره معجم الأدباء ٧/ ٥٢ وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ص ٥٠١ والتكملة ١/ ٢٠٣ وتحفة القادم ٣ وابن خلكان ١/ ٢٤٣ والمغرب ١/ ٢٦١ والبيان المغرب لابن عذارى ١/ ٣١٢ والخريدة: قسم شعراء المغرب والأندلس (طبع تونس) ١/ ١٨٩ - ٢٧٠ وتاريخ الحكماء للقفطى (طبعة ليبزج) ص ٨٠ ومرآة الجنان لليافعى ٣/ ٢٥٣ وشذرات الذهب ٤/ ٨٣.