للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٣ - شعراء الرثاء]

[(أ) رثاء الأفراد]

للعرب-منذ الجاهلية-فى رثاء الأفراد تراث ضخم، وهو يتخذ عندهم ثلاثة ألوان هى الندب والتأبين والعزاء، والندب هو البكاء على ذوى الرحم من الأهلين والأقارب ممن لبّوا نداء ربهم وغادروا الفانية إلى الباقية، والتأبين هو بكاء الشخصيات الفذة الحربية أو السياسية أو العلمية أو الأدبية بذكر فضائلهم وخسارة المجتمع والأمة فيهم، والعزاء استرسال فى الحديث عن الحياة والموت وبيان أن الحياة ظل متنقل سرعان ما ينحسر عن صاحبه، فالجميع إلى فناء وعدم، وكثيرا ما يختلط العزاء بالتأبين والندب. وكل هذه الألوان الثلاثة مبثوثة فى مراثى القيروانيين والتونسيين، وتأخذ فى الكثرة منذ عصر الأغالبة، ويتوفى فيه سحنون إمام المذهب المالكى ويؤبنه تلميذه عبد الملك المهرى بمثل قوله (١):

ولّى-لعمرى-بأرض الغرب قاطبة ... ميت له البدو والحضّار قد خشعا

لله أنت إذا ما هاب فاصلة ... من القضاء كليل الحدّ فارتدعا

هناك برّزت يا سحنون منفردا ... كسابق الخيل لما بان فانقطعا

فاذهب فقيدا حباك الله جنّته ... واحصد من الخير ما قد كنت مزدرعا

وهو يقول إن أهل البدو والحضر جميعا قد خشعوا حين سمعوا بوفاة فقيه الغرب قاطبة، ويقول ما أعظمك حين كنت قاضيا تقضى بالحق على كل متهم فيرتدع ويزدجر، وينوه بقضائه وأنه سبق فيه مجلّيا كل عالم فى عصره، وما أعظم الخسارة فى فقده ويدعو الله أن يفسح له فى فراديسه وأن يجزيه الجزاء الأوفى عما غرس وقدم بين يديه. ولما توفى ابنه محمد رثاه أحمد بن أبى سليمان داود الصواف بمرثية بلغت ثلاثمائة بيت، وفيها يقول (٢):

ألا أيّها النّاعى الذى جلب الأسى ... وأورثنا الأحزان لا كنت ناعيا

نعيت إمام العالمين محمّدا ... وقلت مضى من كان للدين راعيا

ومن كان حبرا عالما ذا فضيلة ... نقيّا رضيّا طاهر القلب زاكيا

والشاعر يبكى فى محمد بن سحنون إمامته الدينية وفقهه وعلمه ونقاء صدره وطهارة قلبه


(١) رياض النفوس للمالكى ١/ ٢٩٠.
(٢) رياض النفوس ١/ ٣٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>