للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والقضب يثنيها النّسيم فتنثنى ... بعض يقبّل بعضها ويقهقر

كعقائل تبغى السّرار فتلتقى ... لصغا الحديث وتارة تتأخّر (١)

فالشجر الملتف قد لبس ثيابا رقيقة من السندس الأخضر، وهو يختال فى أيدى النسيم ويتبختر، وقد حلّت مقدماته عقود زهر منمقة تبرّج فيها لناظريه أيما تبرّج، والطير قد صعدت إلى منابر غصونها، وخطباؤها تتغنى بلحن ساحر يخلب الألباب، والغصون يثنيها النسيم فتنثنى وكأنما يقبل بعضها بعضا ثم يتقهقر أو كأنهن سيدات يردن المسارّة ببعض الحديث فتلتقى مصغية إلى الحديث تارة، وتارة تتأخر، ويستمر أبو على قائلا:

الأرض عاطرة تزفّ كأنما ... غشّى نواحيها عبير ينشر

وتأرّجت أرجاؤها فكأنما ... مسك يضوع خلالها أو عنبر (٢)

وكأنّ ريحان الحياة وروحها ... مستنشق من عرفها ومعطّر (٣)

وكأنما كسيت بساط زبرجد ... نشرت يواقيت عليه وجوهر

فالأرض جميعها عاطرة وكأنما تزفّ فى عرس لها، وكل نواحيها ينتشر فيها عبير ذكى، وكل أرجائها تفوح بصنوف من الطيب والمسك والعنبر، وكأن أريج الحياة ونسيمها العطر مستنشق من شذاها العطر، وكأنما اكتست ببساط من الزبرجد تناثرت عليه جواهر ويواقيت من كل صنف، ويمضى أبو على واصفا جداولها بمثل قوله:

الماء تشعبه إليك جداول ... قد مدّها النهر الزّلال الأكبر (٤)

صاف على صفة المها يجرى على ... رمل النّقا عذب قراح كوثر (٥)

وكأنما حصباؤه فى رونق ال‍ ... ماء الذى يجرى عليه جوهر

والماء تشعبه وتتوزعه جداول: ثمانية عشر كما أسلفنا، وقد أمدها النهر الكبير بمائه الزلال العذب البارد السلس، والماء فى منتهى الصفاء، كأنه مها أو بلّور ناصع، وهو يجرى على رمل يشبه رمل النقا الذى يذكره العشاق النجديون، وهو عذب قراح أو خالص، بل هو كوثر كنهر الفردوس وكأنما حصباؤه جوهر تناثر من عقود كثيرة. وأبو على بدون ريب شاعر بارع براعة فائقة.


(١) عقائل: جمع عقيلة: السيدة الكريمة. السرار: المناجاة وكتمان الحديث. صغا الحديث: سماعه.
(٢) تأرجت: فاحت. يضوع: يفوح.
(٣) عرفها: شذاها.
(٤) تشعبه: تفرقه. الزلال؛ العذب الصافى.
(٥) المها: البلّور. قراح: سائغ. كوثر: حلو والكوثر: من أنهار الفردوس.

<<  <  ج: ص:  >  >>