تقوم ولو قطّعت إربا إربا. واشتدت الحال وبلغت القلوب الحناجر، وكلحت الوجوه، واغبرّت الغرر وتغيرت، واسودّ أبيضها وتنكرت، فترى الرجل لا باس به (سليما) فإذا به يخشى عليه الفوت، فإذا أوتى بالماء سبقه إليه الموت. وهلك من الناس كثيرون ومن الإبل أكثر، وترك الناس بضائعهم وأحمالهم مشحونة بأزوادهم وما به قوامهم، فتاهت فى الفلوات، وذهبوا بأنفسهم فى طلب النجاة. يوم يذكّر بالموقف والعرض، (فى يوم القيامة، وضاقت الدنيا على سعتها فى الطول والعرض، يود الإنسان لو يجد السبيل إلى باطن الأرض، الناس فيه حيارى، وتراهم سكارى وما هم بسكارى. مات من المغاربة زهاء الستين بالعطش من نساء وصبيان ورجال وولدان».
وهذا اليوم الشديد الحرارة لم يحدث له فى حجته الأخيرة إنما حدث له فى حجته الثالثة سنة ١١٠٩ ورحلته بذلك تتضمن أهم المشاهد التى رآها أو صادفها فى رحلاته المختلفة إلى الحج. والرحلة بأسلوب مرسل غير أنه يسجع فيها أحيانا على نحو سجعه فى مشهد هذا اليوم الحار وهى طرفة من طرف الرحلات المغربية. وتوفى سنة ١١٢٩ هـ/١٧١٧ م.
رحلة (١) الوزير الغسانى
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب الملقب بالوزير الغسانى وزير السلطان إسماعيل العلوى المتوفى سنة ١١١٩ هـ/١٧٠٨ م وقد أرسله السلطان فى سفارة إلى ملك إسبانيا للتفاوض فى افتداء الأسرى المسلمين ولمحاولة استرجاع الكتب العربية الباقية عندهم فى المساجد الأندلسية القديمة، ولما عاد إلى وطنه فى المغرب الأقصى كتب رحلة وصف فيها إسبانيا سماها:«رحلة الوزير فى افتكاك الأسير» وكان دقيق الملاحظة، فحملت رحلته ملاحظات مهمة عن إسبانيا فى الفترة التى زارها فيها، وهى مكتوبة بأسلوب مرسل طليق لا أثر للصنعة فيه، ومن قوله فى استقبال الملك الإسبانى له:
«حين قربنا من باب القصر لقينا وكيل الميوردوم. . فسلّم ورحّب ودخل بنا الدار. . فجعلنا نمرّ بجماعات من الأعيان والأكابر، فيسلمون ويقف كلّ عند حدّه، إلى أن دخلنا قبة كبيرة ببابها كاتب الديوان الكبير، وهو رجل كبير السن بلغ منه الكبر إلى أن انحنى فلقينا أحسن الملاقاة. . ودخل بناقبة أخرى لها باب، وفى هذه القبة وجدنا الطاغية واقفا على قدميه، وقد جعل فى عنقه سلسلة من ذهب، وتلك هى عوائد ملوك العجم، إذ هى عندهم بمثابة
(١) انظر فى هذه الرحلة الحياة الأدبية فى المغرب على عهد الدولة العلوية ص ١٥٦ وما بعدها. وهى مطبوعة بطنجة.