كخمائل. فقال القلم: أستعيذ بالله من خطل أرعيت فيه سوامك (إبلك) وزلل افتتحت به كلامك، إن ازدراءك بتمكن وجدانى، وبخس أثمانى، لنقص فى طباعك، وقصر فى باعك، ألا وإن الذهب معدنه فى العفر (التراب) وهو أنفس الجواهر، والنار مكمنها فى الحجر، وهى إحدى العناصر، وإن الماء-وهو الحياة-أكثر المعايش وجدانا، وأقلّها أثمانا، وقلما تلقى الأعلاق النفيسة إلا فى الأمكنة الخسيسة. فقال السيف: جعجعة رحى لا يتبعها طحن (دقيق) وجلجلة رعد لا يليها مزن، وجه لئيم، وجسم سقيم، ودموع سجام، كأنهن سخام (فحم) فهبّ من نومك، وأفطر من صومك، إنى لو انتضيت (سللت) والشمس كاسفة لم ينظر وقت تجلّيها (١)، أو السّنون مجدبة أيقن بالحيا (بالغيث) راعيها. أكرع (أشرب) يوم الوغى فى لبّة البطل (أعلى صدره) فأعود كالخدّ كسى صبغ الخجل».
ولما كثر تعارضهما، وطال تناظرهما، ولم ينثن أحدهما كهاما (كليلا) بادرا إلى السلم يعقدان لواءه، قائلين إن من القبيح أن تتشتت أهواؤنا وتتفرّق آراؤنا وقد جمعنا الله فى المألف الكريم، وقال القلم إن مما نبرم به عقدنا، وننظم عقدنا إن حالت حال، وكان للدّهر انتقال، أن نخطّ كتابا مصيبا، يكون لنا منابا وعلينا رقيبا، فقد يدبّ الدهر بعقاربه، بين المرء وأقاربه، واختار القلم أن يكون العقد شعرا، لأنه شدو الحادى، وزاد الرائح والغادى. وسجله فى قطعة شعرية بديعة. وواضح ما امتاز به ابن برد الأصغر فى تلك المناظرة بين السيف والقلم من قدرة على صوغ الأدلة والبراهين فى لسانى الخصمين المتناظرين، إذ ما زال يؤلف لكل منهما حججا يدلى بها مع نقضه لحجج منافسه.
وطبيعى أن لا ننقل تلك المناظرة بحذافيرها، فقد اجتزأناها مكتفين بما نقلناه منها للدلالة على قدرة ابن برد فى توليد الأفكار والبراهين وفى صوغ الكلام وحوكه حياكة تموج بالعذوبة، إذ كان يعرف كيف يصطفى ألفاظه وكيف يلائم بينها ملاءمات موسيقية بديعة.
[(ب) رسالة النخلة]
هى رسالة عتاب لصديق سبق أن عاتبه فى العام الفارط على كتمانه لرطب نخلة، وهى تعد بالأندلس إحدى الغرائب وفريدة العجائب، ويقول إنه سأله من جناها قليلا، فقال له لو علمت أن لكم به هذا الكلف لأمسكته عليكم، ولكنه فى العام المقبل إن شاء
(١) يشير إلى كثرة الغبار فى الحرب حين تسلّ السيوف وتكر الخيل.