على حكم هؤلاء المماليك قضاء نهائيا. وبذلك تدخل بغداد والعراق فى الدور الثالث من أدوار الحكم العثمانى الذى أظلّ البلاد حتى سنة ١٣٣٦ هـ/١٩١٨ م. ويمكن أن ندخل الشطر الأكبر من هذا الدور فى حقب العصر الحديث فى العراق، إذ هبّ جماعة من المصلحين فى تركيا يحاولون إصلاح أداة الحكم الفاسدة، واضطر السلطان عبد المجيد أن يصدر أمرا بإلغاء الاحتكارات والمصادرات وتحديد الضرائب على أسس قومية من العدالة.
وكان ذلك إيذانا بعصر جديد فى تركيا والولايات التابعة لها فى العراق وغير العراق، غير أن الولاة الذين تعاقبوا على العراق حتى سنة ١٢٨٦ هـ/١٨٦٩ م لم يصدروا عن ذلك فى حكمهم، فظل الظلام والفساد مخيّمين عليها إلى أن وليها مدحت باشا فى السنة آنفة الذكر، وكان معروفا بنزعته الإصلاحية وما قام به من خدمات عظيمة فى ولايته على بلغاريا. ولم يكد يستلم مقاليد الولاية فى العراق حتى نهض فيها بإصلاحات كثيرة فى إدارة الحكم، فألغى نظام الالتزام وردّ الأرض على الفلاحين العراقيين نظير أقساط محدودة، وأنشأ مطبعة لطبع الجريدة الرسمية وطبع الكتب، كما أنشأ طائفة من المدارس المهنية والعلمية النظرية، وبنى مستشفى كبيرا، ومدّ بها خطا للبرق، وأصلح نظام الموازين والنقود بحيث تعد ولايته بحق البدء الحقيقى للعصر الحديث فى العراق. وقد ظل العثمانيون فى العراق وبغداد قبله نحو ثلاثة قرون ونصف لم يعنوا فيها أى عناية بإصلاحات اجتماعية أو تعليمية أو اقتصادية.
[٣ - المجتمع]
كان المجتمع فى بغداد والعراق يتألف من ثلاث طبقات: طبقة أروستقراطية، على رأسها الخليفة والسلطان الحاكم ويتلوهما حواشيهما من الوزراء والقادة والأمراء والولاة وكبار الموظفين والإقطاعيين، ويدخل فى هذه الطبقة بعض التجار الرأسماليين. وطبقة وسطى تتكون من صغار الموظفين والتجار والصناع والقضاة والعلماء ورجال الحسبة، وطبقة دنيا هى طبقة العامة من الزراع والخدم والرقيق وأصحاب الحرف. ويسلك أهل الذمة فى الطبقتين الأخيرتين عادة، إلا من ارتفع منهم إلى الوزارة، وكان ذلك يحدث نادرا كما حدث فى عهد عضد الدولة، فقد اتخذ له وزيرا نصرانيا، هو نصر بن هرون، الذى ترك له تدبير شئون فارس بينما كان وزيره المدبر لشئون بغداد والعراق المطهر بن عبد الله.