رأينا فى العصرين: العباسى الأول والعباسى الثانى كيف تطور النثر العربى حتى وعى الثقافات الأجنبية العلمية والفلسفية، وكيف تحول العرب من دور النقل والترجمة إلى دور التصنيف والمشاركة العقلية الخصبة المثمرة فى ميادين العلم والفلسفة. ونحن لا نصل إلى هذا العصر: عصر الدول والإمارات، حتى يصبح فى أغلب الأمر عصر تصنيف ومشاركة حية فى الفلسفة وعلوم الأوائل، على نحو ما صوّرنا ذلك فى غير هذا الموضع.
وقد أصبح للعرب نوعان متكاملان من النثر: نوع علمى ونوع فلسفى، ونفذوا خلال ذلك إلى وضع كتب فى مصطلحات العلوم، كما أسلفنا، وكل ذلك أحدثوه بدون ضجة. ولم يتركوا علما دون أن يتعمقوا فيه ودون أن يكتبوا فيه المجلدات الضخام، ويحدثنا المطهر المقدس المتوفى سنة ٣٥٥ عن سلوك معاصريه العلمى وما يبذلون من عناء ليس وراءه عناء قائلا (١):
* «يأبى العلم أن يضع كنفه أو يخفض جناحه أو يسفر عن وجهه إلا لتمجرّد له بكلّيته، ومتوّفر عليه بأنّيّه، معان له بالقريحة الثاقبة، والرّويّة الصافية، مقترن به التأييد والتسديد، قد شمّر ذيله، وأسهر ليله، حليف النّصب، ضجيع التعب، يأخذ مأخذه متدرّجا، ويتلقّاه متطرّفا، لا يظلم العلم بالتعسف والاقتحام، ولا يخبط فيه خبط العشواء فى الظلام، ومع هجران عادة الشر، والنزوع عن نزاع الطبع، ومجانبة الإلف، ونبذ المماحكة واللّجاجة، وإجالة الرأى عند غموض الحق، والتأتى بلطيف المأتى، وتوفية النظر حقه من التمييز بين المشتبه والمتضح، والتفريق بين التمويه والتحقيق، والوقوف عند مبلغ العقول، فعند ذلك إصابة المراد، ومصادفة المرتاد».
وبهذا العناء البالغ والجهد الشاق تمثل المثقفون العلوم والفلسفة تمثلا رائعا، وكان