للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شعراء العصر العباسى الأول، مع محاولاتهم الجادة فى التطور بمعانى المديح عمقا وسعة وتنوعا، وظلت رغباتهم ومحاولاتهم فى هذه الإضافة تزداد خصبا فى هذا العصر، وهم فى ذلك لا ينسون مثالية المديح الموروثة، فإذا مدحوا خليفة أو واليا أو قائدا تمثلوا فيه الفضائل العربية مرسومة، وكذلك الفضائل الإسلامية، وتمثلوا أيضا العدل الذى يعصم الحاكم من الطغيان ويعصم الشعب من العبث والظلم والفساد.

ويتردد ذلك دائما على ألسنة الشعراء من مثل قول البحترى فى المتوكل، وكان اسمه جعفرا (١):

خلق الله جعفرا قيّم الدّن‍ ... يا سدادا وقيّم الدين رشدا

أظهر العدل فاستنارت به الأر ... ض وعمّ البلاد غورا ونجدا

وقد مضى الشعراء يضفون هذه المثالية على الخلفاء فى الحكم وفى التقوى وأيضا فى الخلق والشيم، مهما كانت سيرتهم وكأنهم لم يكونوا يفكرون فيهم من حيث هم إنما كانوا يفكرون فيهم من حيث خلافتهم وقيامهم على حكم الرعية، وهم لذلك يرفعون أمام أعينهم ما ينبغى أن يكون عليه الخليفة فى خلقه وفى دينه وفى سيرته وفى حكمه، وكأنما هو رمز، رمز للأمة فى حاكمها الرشيد، وهم يبرزونه لها بالصورة التى تريدها ويريدونها معها، صورة الحاكم المخلص الأمين الذى ينكر الظلم أشد الإنكار، والذى يعمل بكل ما فى وسعه على إشاعة العدالة بين أفراد رعيته حتى يتساووا فى الانتفاع بالحياة تساويا تامّا. وكان هناك من يبالغون فى مديح الخلفاء حتى ليضفون عليهم صفات قدسية، وهى صفات خلعها شعراء الشيعة على أئمتهم منذ عصر بنى أمية، وأخذ شعراء الخلفاء من حينئذ يستعيرونها ليسبغوها بدورهم على الخلفاء الأمويين والعباسيين، من مثل قول ابن الجهم فى المتوكل (٢):

إمام هدى جلّى عن الدين بعد ما ... تعادت على أشياعه شيع الكفر

وقوله (٣):

له المنّة العظمى على كل مسلم ... وطاعته فرض من الله منزل


(١) الديوان ٢/ ٧١٢.
(٢) الديوان ص ٢٢٢.
(٣) الديوان ص ١٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>