من البصرة، وقد ولد له سنة ٤٤٦ وبها كان منشؤه ومرباه. ثم سكن البصرة فى حى بنى حرام الفزاريّين، وأخذ يختلف إلى علماء عصره، يأخذ عنهم الحديث والفقه والأدب، ويسميهم، ويعدّدهم، السبكى فى طبقاته. ويذكر مترجموه أنه تولى وظيفة الخبر فى ديوان الخلافة بالبصرة، وهى وظيفة تشبه وظيفة مصلحة الاستعلامات فى عصرنا، ولا يعرف بالضبط متى تقلّدها ولا متى عهد إليه بها، وظل فى هذه الوظيفة إلى وفاته سنة ٥١٦ وظلت بعده فى أبنائه حتى آخر عهد المتقى بالله (٥٣٠ - ٥٥٥ هـ). ولم تمنعه الوظيفة من أن يعكف على الأدب واللغة، بل أن يفرغ لهما، فيكتب مجموعة من الرسائل، وآيته الرائعة: المقامات، وينظم من الشعر ما يتيح له أن يكون من أصحاب الدواوين، ويؤلف كتابه المعروف «درّة الغوّاص فى أوهام الخواص» وهو مطبوع مرارا وواضح من عنوانه أنه فيه يسجل أغلاط المتأدبين مما يشيع على ألسنة العامة، وإن كان قد بالغ فى ذلك حتى عدّ بعض الكلمات الفصيحة غير صحيحة. ولشهاب الدين الخفاجى شرح عليه طبع فى إستانبول، ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أن لتلميذه الجواليقى تكملة ألحقها بالكتاب وهى مطبوعة. ويؤلف الحريرى أيضا ملحة الإعراب، وهى منظومة فى النحو شرحها شرحا جيدا، وهى مطبوعة فى القاهرة مرارا. وكان لا يزال يختلف بين عمله فى البصرة وضياعه فى المشان وبين بغداد دار الخلافة وملتقى العلماء والأدباء. ومما يدل على أنه كان يختلف إلى بغداد منذ أواخر القرن الخامس ما أنشده له العماد الأصبهانى فى مديح سعد الملك وزير السلطان محمد شاه السلجوقى الذى صلبه وقتله سنة ٥٠٠ للهجرة. ويقول السبكى إنه حدّث فى بغداد بجزء من حديثه وبمقاماته.
وكان الحريرى لا يبارى فى الأدب والبلاغة والفصاحة، وتعدّ مقاماته آية براعته التى ليس لها لاحقة مماثلة وكأنما أغلق الأبواب بكلتا يديه بعده، فلم يستطع أحد أن يجاريه أو يبلغ مبلغه فى تلك المقامات، ويشهد بذلك الزمخشرى قائلا:
أقسم بالله وآياته ... ومشعر الحج وميقاته
إن الحريرىّ حرىّ بأن ... نكتب بالتّبر مقاماته
ويقول السمعانى عنه: «لم يكن له فى فنه نظير فى عصره، ولو قلت إن مفتتح الإحسان فى شعره كما أن مختتم الإبداع فى نثره، وأن مسير الحسن تحت لواء كلامه، كما أن
= الحريرية، وهو مطبوع فى مصر مرارا، وهو شرح نفيس وتكتظ رفوف المكتبات بشروح للمقامات لا تزال مخطوطة. وراجع فيه وفى مقاماته كتابنا (المقامة) طبع دار المعارف ص ٤٤ والفن ومذاهبه فى النثر العربى ص ٢٩٢.