للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مخيّم السحر عند أقلامه، لما زلقت من شاهق الإنصاف، إلى حضيض الاعتساف».

ويقول العماد الأصبهانى: «طلعت ذكاء (١) ذكائه فى المغرب والمشرق، وامتلأت ببضائع فوائده، ونواصع فرائده، حقائب المشئم والمعرق. . حريرىّ الوشى، عراقىّ الوشم (٢)، لؤلؤى النظم، كلامه يتيمة البحر، وتميمة النّحر، ودرّة الصّدف، ودرّى السّدف (٣). . قد أعجز الفصحاء بصناعته، وأبرّ (٤) على البلغاء ببراعته». ويقول الرواة إنه كان بخيلا دميم الخلقة والهيئة، تقتحمه العين، وكان يعتاد نتف لحيته، والناس على الرغم من ذلك يزدحمون عليه لسماع مقاماته وإجازتهم بروايتها. ويقال إنه أجاز لسبعمائة طالب أن يرووها عنه، وفى ذلك ما يدل على ما كان يحظى به هو ومقاماته فى عصره من منزلة أدبية رفيعة.

والمقامات أقاصيص قصيرة تصور مواقف متنوعة لأديب متسول يحتال ببيانه وفصاحة لسانه على الناس، فيلقون إليه بالدراهم والدنانير، وهى تزخر بحركة تمثيلية، غير أنها لا تتسع لتصوير حياة مجتمعها، فقد كانت غاية الحريرى منها غاية بيانية بلاغية فحسب، واستطاع أن يحقق هذه الغاية إلى أبعد مدى. ويزعم الرواة أن سبب صوغه لها ما حكاه عن نفسه من أنه كان جالسا فى مسجد بنى حرام فى البصرة فدخل شيخ رثّ الهيئة، كان شحاذا أديبا فسلّم ثم سأل، فأعجبت الحاضرين فصاحته وحسن بيانه، فسألوه عن كنيته فقال أبو زيد، وسألوه عن موطنه، فقال من سروج، وهى بلدة قرب حرّان شمالى العراق، فعمل الحريرى المقامة المعروفة باسم الحرامية، وهى المقامة الثامنة والأربعون، ونسبها إلى أبى زيد السّروجى المذكور، واشتهرت فبلغ خبرها-فيما يقال-أنو شروان ابن خالد وزير الخليفة المسترشد (٥١٢ - ٥٢٩ هـ‍). فأشار عليه أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة. ويقال بل إنه حين عاد إلى البصرة صنع أربعين مقامة، ورجع إلى بغداد، فأعجب بها الأدباء، وطلبوا إليه أن يؤلف على غرارها مقامة امتحانا له، فظل أربعين يوما لا يفتح عليه بشئ، فعاد إلى البصرة، وألف عشر مقامات، وأصعد بها إلى بغداد فعرف الأدباء فضله. وقال بعض حساده إنها من صناعة شخص كان استضافه، فمات عنده. وقال حساد آخرون إن البدو أخذوا جرابا لمغربى من بعض القوافل كانت به هذه المقامات، وتصادف أن اشتراه منهم الحريرى فنسبها إلى نفسه! .

وكل ما قدمنا قصص غير صحيحة، وفى مقدمتها قصة تشجيع أنوشروان بن خالد له


(١) ذكاء: شمس.
(٢) الوشم: النقش.
(٣) السدف: الظلم.
(٤) أبر: غلب.

<<  <  ج: ص:  >  >>