وبعثه على تأليفها، فإنه تولى وزارة المسترشد بعد وفاة الحريرى، وكذّبها ابن خلكان بطريق آخر إذ قال إنه رأى نسخة من المقامات بخط الحريرى نفسه كتب بخطه على ظهرها إنه صنفها للوزير جلال الدين بن صدقة وزير المسترشد وقد وزر له فى أول خلافته سنة ٥١٢ وكأنه هو الذى أشار إليه فى مقدمة المقدمات بقوله:«فأشار من إشارته حكم وطاعته غنم إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع» يريد البديع الهمذانى ومقاماته.
وتوقف الشريشى فى شرحه إزاء هذه العبارة، وكأنه أراد أن يدحض كل ما قيل من أن المقامات ألفت فى عهد المسترشد بإشارة أحد وزيريه: ابن صدقة أو ابن خالد، فقال إنها إنما ألفت بإشارة الخليفة المستظهر (٤٨٧ - ٥١٢ هـ) وبدأ الحريرى تأليفها سنة ٤٩٥ واستغرقت منه نحو عشر سنوات حتى سنة ٥٠٤.
واتسعت الأسطورة بأبى زيد، أديب المقامات الشحاذ، فقيل إنه نحوى يسمى المطهّر ابن سلار، ونرى كتب تراجم النحاة تترجم له ذاكرة أنه صاحب الحريرى الذى أنشأ المقامات على لسانه، وتقول إنه روى عنه أرجوزته «ملحة الإعراب» وربما كان المطهر شخصية حقيقية، ودخل الوهم منه على النحاة، فظنوا أنه أبو زيد السّروجى. ومن المؤكد أن أبا زيد فى المقامات شخصية خيالية اخترعها خيال الحريرى ليحوك من حولها حيل أديب متسول. وقد سمى راويته الحارث بن همّام يعنى به نفسه أخذا من الحديث النبوى:
«كلكم حارث وكلكم همام» أى كاسب كثير الاهتمام. ومن المؤكد أيضا أنها بناء متكامل، لم يعدّ مجزّا ولا قطعة تلو قطعة، ويتضح ذلك من طريقة الحريرى فى عرضه المقامة الأولى، إذ جعلها لتعريف أبى زيد بروايته، بينما جعل الأخيرة، وهى ذات الرقم الخمسين، لتوبة أبى زيد من حرفة الشحاذة وحيلها الكاذبة وندمه على ما تقدم من ذنوبه، ويغيب عن راويته، ولا يزال يبحث عنه حتى يجده فى بلدته سروج وقد تحول ناسكا متصوفا مستغرقا فى عبادة ربه. وسمى المقامات فيما عدا ثلاثا منها باسم البلدان التى تنقل فيها أبو زيد من مشرق العالم الإسلامى إلى مغربه. ونرى الحريرى يذكر فى مقدمتها مقصده منها إذ يقول:«أنشأت خمسين مقامة تحتوى على جدّ القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشّحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات ورصّعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجى النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبّرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية».
ومعنى ذلك أنه لم يقصد فيها إلى القصص لذاته، وإنما قصد فيها إلى أفانين من النثر فضلا عما التزمه من السجع. وكان ذوق التصنع عمّ فى الكتابة، فلم يقف الكتّاب عند السجع