والمحسنات البديعية، بل أخذوا يضيفون إلى ذلك عقدا غريبة يصعّبون بها المرور إلى السجع، حتى يثبتوا براعتهم الأدبية، وما نكاد نلمّ بالمقامة السادسة، حتى نراه يخلب ألباب الناس برسالة تتوالى كلماتها: كلمة حروفها منقوطة وكلمة حروفها غير منقوطة، حتى إذا كانت المقامة المغربية السادسة عشرة عرض عقدة أو لعبة غاية فى العسر تسمى ما لا يستحيل بالانعكاس كقوله. «لم أخا ملّ» فإن العبارة تقرأ طردا وعكسا فلا تتغير حروفها، ومضى يعرض طائفة كبيرة من مثل هذه العبارة نثرا وشعرا، مما ملأ الحاضرين به إعجابا شديدا. وفى المقامة القهقرية التالية جاء بطائفة كبيرة من الحكم تقرأ الألفاظ فيها لا الحروف طردا وعكسا مثل «مع اللجاجة تلغى الحاجة» فإنها يمكن أن تقرأ «الحاجة تلغى مع اللجاجة». ويسمى المقامة السادسة والعشرين باسم الرّقطاء لأنها تتألف من كلمات تتوالى حروفها بالتبادل بين النقط وعدمه مثل «نائل يديه فاض، وشحّ قلبه غاض». وفى المقامة الثامنة والعشرين نرى أبا زيد يخطب خطبة كل كلماتها غير منقوطة، ويعود إلى نفس اللعبة فى المقامة التالية. وكل هذه عقد غريبة كان يمكن أن تخنق المقامات خنقا لولا ما امتاز به نسج الحريرى من عذوبة ورشاقة. وكانت لعبة الألغاز شاعت فى العصر، فأفرد لها مقاماته: السادسة والثلاثين والثانية والأربعين والرابعة والأربعين. وخصّ النحو بالمقامة الرابعة والعشرين، إذ عرض فيها اثنتى عشرة مسألة نحوية، وأفرد للفقه مقامتين:
الخامسة عشرة والثانية والثلاثين. وقلما يعنى بعرض شئون عصره السياسية والاجتماعية إلا أشياء طفيفة هنا وهناك، فقد كان مشغولا بعرض الأمثال والكنايات وألفاظ اللغة الغريبة، على أن تكون مقبولة لا تصكّ الأسماع ولا تستثقلها الأفواه. وهو يكثر فى مقاماته من الآيات القرآنية ومن أشعاره الجيدة ومن المحسّنات البديعية وخاصة الجناس. وطبيعى أن تتعدد فيها المواقف ويتنوع معها وصفه، فتارة يصف روضة أو فلاة أو بحرا أو سوقا، وتارة ثانية هو زاهد متعبد يكثر من وعظه بمثل قوله:
«ابن آدم ما أغراك بما يغرّك، وأضراك (أجرأك) بما يضرّك، وألهجك بما يطغيك، وأبهجك بمن يطريك. . لا بالكفاف تقتنع، ولا من الحرام تمتنع، ولا للعظات تستمع، ولا بالوعيد ترتدع. . يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك. .
أتظن أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غدا. . كلا والله لن يدفع المنون، مال ولا بنون، ولا ينفع أهل القبور، سوى العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادّعى (ونهى النّفس عن الهوى) وعلم أن الفائز من ارعوى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى)».