والمواعظ والأدعية الإلهية كثيرة فى المقامات، ودائما تعرض فى مثل هذه الأسجاع الخفيفة التى تطير عن الأفواه فى عذوبة ورشاقة. وبينما يلقانا أبو زيد فى بعض النوادى واعظا إذا هو يتحول من حين إلى حين ماجنا مع ندامى يحتسى العقار ويخلع الوقار. ولكن من الحق أن ذلك قليل فى المقامات، وقد أراد به الحريرى إلى الفكاهة والدعابة، وهما واضحتان عنده فى مقامات عدّة، وخاصة حين يظهر أبو زيد مع ابنه أو مع زوجته مختصمين إلى أحد القضاة أو الحكّام على نحو ما نرى فى المقامة الإسكندرانية، إذ تنكّر فى زى شيخ هرم خبيث تجرّه بعنف امرأة معها طفل نحيل ضئيل، وتقدما إلى القاضى وكانا قد عرفا أنه أحضر مال الصدقات ليوزعه على الفقراء وذوى الحاجات، ولم تلبث المرأة أن بادرت إليه قائلة:
«أيّد الله القاضى، وأدام به التراضى، إنى امرأة من أكرم جرثومة، وأطهر أرومة، ميسمى الصّون. . وخلقى نعم العون، وبينى وبين جاراتى بون، وكان أبى إذا خطبنى بناة المجد، وأرباب الجدّ، سكّتهم وبكّتهم، وعاف وصلتهم وصلتهم، واحتجّ بأنه عاهد الله تعالى بحلفة، أن لا يصاهر غير ذى حرفة، فقيّض القدر لنصبى ووصبى، أن حضر هذا الخدعة نادى أبى، فأقسم بين رهطه، أنه وفق شرطه، وادّعى أنه طالما نظم درّة إلى درّة، فباعهما ببدرة (مال كثير) فاغترّ أبى بزخرفة محاله (كيده) وزوّجنيه قبل اختبار حاله، فلما استخرجنى من كناسى (بيتى) ورحّلنى عن أناسى، ونقلنى إلى كسره (بيته) وحصّلنى تحت أسره، وجدته قعدة جثمة (لا يفارق البيت) وألفيته ضجعة (عاجزا) نومة. . . ومزّق مالى بأسره، وأنفق مالى فى عسره. . ولى منه سلالة، كأنه خلالة، وكلانا ما ينال منه شبعة، ولا ترقأ له من الطّوى (الجوع) دمعة، وقد قدته إليك، وأحضرته لديك، لتعجم (لتختبر) عود دعواه، وتحكم بيننا بما أراك الله».
وتمضى المقامة على هذا النمط الفكه، ويردّ الشيخ بقصيدة طويلة يدعى فيها أنه لا يشقّ غباره فى العلم والشعر، وأنه طالما اكتسب الأموال بدرر كلامه، غير أن سوق الأدب كسدت، لانقراض جيل الكرام، مما اضطره إلى بيع كل ما يملك هو وزوجته، حتى لقد باع-كارها والدموع تترقرق فى عينيه-جهازها وكل ما دخلت به من أثاث ورياش أو ثياب فاخرة. وتنتهى المقامة بعطف القاضى على الشيخ وزوجته وفرضه لهما فى الصدقات حصّة.
والمقامات يشيع فيها الجناس والمحسنات البديعية، كما تشيع فيها العذوبة، ويخيل إلى قارئ الحريرى فى مقاماته كأنما جمع العربية كلها فى كنانة أو حقيبة ثم نثر ألفاظها بين