يديه، وأخذ يختار منها وينتخب أروع ما عرفت لغتنا من أساليب مسجوعة، وكأنما كان يعزفها على قيثارة عزف ملحن مبدع، مما جعل معاصريه ومن جاء بعدهم يتخذونها النموذج النثرى الذى لا يجارى فى غرس ذوق العربية فى نفوس الناشئة وكل ما يطوى فى هذا الذوق من إحساس بجمال الصياغة الأدبية النثرية. ومرّ بنا فى الفصل الثانى من هذا القسم الخاص بالعراق أن لابن الخشاب البغدادى المتوفى سنة ٥٦٧ مبحثا لغويا فيما زعمه من أغلاط الحريرى فى مقاماته وأن لابن برّىّ اللغوى المصرى المتوفى سنة ٥٨٢ ردّا عليه انتصر فيه للحريرى.
وكان للحريرى بجانب مقاماته مجموع رسائل، لم تحتفظ به يد الزمن، غير أن العماد فى خريدته وياقوت فى معجمه احتفظا ببعض رسائله، وأطال العماد الأصبهانى فى قطف منتخبات كثيرة من هذه الرسائل شغلت منه فى ترجمته له نحو أربعين صحيفة، وقد سجل منها هو وياقوت رسالتين اشتهرتا فى عصر الحريرى وبعد عصره، اختار كلمات الأولى منها من ذوات السين ولذلك سميت السينية، واختار كلمات الثانية من ذوات الشين، ولذلك سميت الشينية، والتكلف فيهما واضح لالتزام كلمات بعينها، وكأنه فيهما يحجل فى قيود ثقيلة. غير أن ما وراءهما من رسائل يشهد له بسلاسة سجعه وحسن رصفه فى رسائله شأنه فى مقاماته، كقوله فى وصف جواب أو رسالة من أحد أصدقائه:
«وصل الجواب. . وخلته كتاب الأمان، من الزمان، فتلقيته، كما تتلفى يد الإنسان، صحف الإحسان، وصكاك العطايا الحسان. لا: بل كما تتلقى أنامل الرّاح (الكف) كاسات الرّاح (الخمر) من أيدى الصّباح (الفاتنات) فى نسمات الصّباح، ومازلت أتمتع بحلىّ ودرر، ووشى وحبر (حرير) وملح وزهر. . فلله ما جمع فيه من أنوار ونوّار (زهر) ونضير (جميل) ونضار (ذهب) وتحسين وإحسان، ومعين (ماء عذب) ومعان».
وواضح ما فى هذا السجع من خفة ورشاقة بما يحتويه من مهارة فى انتخاب ألفاظه وتقصير عباراته بحيث يمتع الألسنة كلامه حين يجرى عليها متدفقا فى عذوبة، كما يمتع الآذان حين تستمع إلى جرسه ونبراته، حتى ليشعر قارؤه أن متاعا موسيقيّا خلابا يصبّ فى حنايا سجعه، متاعا يلذ الآذان والقلوب والأفئدة.