للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غوص. ويقول ياقوت كان له ديوان شعر وقفت عليه بخطه الرائق فوجدته مشحونا بالفوائد النحوية، وقد شرح ألفاظه اللغوية واعتنى بإعرابه فدلّ على تبحره فى علم العربية». وروى العماد الأصبهانى فى الخريدة طائفة من شعره، بينها غزل كثير يدل على رهافة حسه ودقة شعوره من مثل قوله:

أأحبابنا إن خلّف البين بعدكم ... قلوبا ففيها للتفرّق نيران

رحلتم على أن القلوب دياركم ... وأنكم فيها على النّأى سكّان

ونمضى معه فى هذا الغزل الملتاع وإذا هو يذكر غربته فى دمشق، وينتقل من الغزل إلى سرد بعض خبرات له فى الحياة، مما تعمق نفسه فى غربته الطويلة عن ملاعب صباه وشبابه وعن مجالس إخوانه وخلاّنه، يقول:

وما باختيار المرء تشعب نيّة ... فتبرح أوطار وتنزح أوطان (١)

عسى مورد من ماء جوشن ناقع ... فإنى إلى تلك الموارد ظمآن

وما كلّ إنسان ينال مراده ... ويسعده فيما يحاول إمكان

وعيش الفتى طعمان حلو وعلقم ... كما حاله قسمان: رزق وحرمان

وهو يألم لغربته ونزوحه عن وطنه، ويتمنى جرعة من ماء الآبار فى جبل جوشن المشرف على حلب ينقع بها لهيب ظمئه إلى موطنه ودياره. ويسوق ذلك فى عبارات عامة تحيل البيتين الأول والثانى حكمتين بديعتين، وكأنه يريد أن يعزى نفسه فينظم الحكمتين التاليتين، فليس كل إنسان تتحقق مناه ويعيش سعيدا، بل كان إنسان يذوق الحلو والمر فى حياته كما يذوق الرضا والحرمان.

ويستهل قصيدة أخرى بالغزل أيضا وما يلبث أن يفضى إلى الحكم قائلا:

رأيت الفتى يأتيه ما لا يناله ... بسعى ولو أنضى الرّكائب والرّكبا (٢)

ومن رام إدراك المنى بفضيلة ... فقد رام أمر ليس يدركه صعبا

ويذهب بالودّ المراء ويمترى ... حفائظ لا تبقى على صاحب صحبا (٣)

توقّ قليل الشرّ خوف كثيره ... ولا تحقرنّ النّزر ربّتما أربى

فإن صغير الشئ يكبر أمره ... وكم لفظة جرّت إلى أهلها حربا


(١) تشعب: تبعد
(٢) أنضى: أتعب. الركائب: الابل
(٣) يمترى: يستثير: حفائظ جمع حفيظة وهى الغضب والحمية.

<<  <  ج: ص:  >  >>