للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يتكلم فى أول الأبيات عن الحظ وما يغدقه على الإنسان، دون سعى، من منى لو أضنى فيها الركائب والركب ما نالها أبدا، ومهما تذرع لها من فضيلة وخصال طيبة ما دنت قطوفها منه بحال، وينصح الأصدقاء أن لا ينشب بينهم مراء ولا جدال مقيت لأنه يثير حفائظهم ومكامن الغيظ منهم ويقطع ما بينهم من صلات. ويوصى الإنسان أن يتجنّب قليل الشر حتى لا يقع فى وهاده الكثيرة السيئة، وأن لا يظنه-مهما صغر وتضاءل-شيئا لا يؤبه به، فقد ينمو كما تنمو النار من بعض الشرر، وكم من شر قليل حقير نما واستفحل واستعصى علاجه، وكم من لفظة حمقاء أو قدت نار حرب مستطيرة. وينثر فى قصيدة ثالثة طائفة من الحكم كقوله:

وقد يحبب الإنسان ما فيه نقصه ... ويبغض ما ينمى به ويزيد

نريد من الأيام تصفو من الأذى ... وتضفو ولا يقضى بذاك وجود (١)

وكيف نروم العيش خلوا من القذى ... وللماء من بعد الصّفاء ركود

إذا كان يعطى المرء ما يستحقّه ... تساوى شقىّ فى القضا وسعيد

ومن جرّب الدنيا على سوء فعلها ... يعيب ذميم العيش وهو حميد

وقد ألهمه البيت الأول قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرّ لكم) ويقول إننا نريد من الأيام صفاء من الشوائب وأن تكون ضافية سابغة رغدة ولا تقضى بذلك سنة الوجود، حتى فى الطبيعة، فالماء يركد بعد صفء وحركة دائبة. ولو أن كل شخص نال ما تمنى لخالف ذلك سنة الحياة وأن الناس منهم شقى وسعيد، وجدير بمن خبر الدنيا أن يرضى بميسور عيشه وأن يصبح فى رأيه حميدا لا كريها مذموما. ومن طريف شعره.

الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن اللّمس ومن لين

مرو توقّى الرّجل منه الأذى ... وإثمد يجعل فى العين (٢)

وهو تقسيم بديع للناس فهم كأمهم الأرض معادن مختلفة، منهم الصّلد الذى لا يأتى بخير بل قد يؤذى، ومنهم الكحل النافع الذى يبرئ العين ويزيدها حسنا وبهاء وجمالا. ولمنصور وراء ذلك أشعار يدعو فيها إلى الزهد فى الدنيا والتقوى والعمل الصالح.


(١) تضفو: تصبح رغدة هانئة
(٢) المرو: الحجر الصلد. الإثمد: الكحل

<<  <  ج: ص:  >  >>