للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنى لميت إن صدد ... ت وإن وصلت رجعت حيّا

وعلى شاكلته محمد بن أمية، وكان يهوى جارية تسمى خداع رآها تغنّى ببعض دور النخاسة، فشغف بها شغفا شديدا واتصلت زياراته لها، وبادلته حبّا بحب، ولقيته، ولكنها ظلت تدافعه عن نفسها، وكثيرا ما كانت تعده الزيارة ولا تزوره. وهو يقول لها دائما إنى أحبك إنى أنتظرك، من مثل قوله (١):

ربّ وعد منك لا أنساه لى ... أوجب الشكر وإن لم تفعلى

أقطع الدهر بظنّ حسن ... وأجلّى غمرة ما تنجلى

كلما أمّلت يوما صالحا ... عرض المكروه لى فى أملى

وأرى الأيام لا تدنى الذى ... أرتجى منك وتدنى أجلى

وبينما هو يمى نفسه باقتطاف ثمرة الحب اشتراها بعض ولد المهدى. فحجبت عنه وانقطع ما بينهما إلا مكاتبة ومراسلة. واستقر حبها فى قلبه وملك عليه كل شئ من أمره، فمضى يتغبى بها طويلا، وكان خلاّنه يلومونه ويقولون له: إنها تبخل عليك بودّها، فدعها إلى غيرها، فينشدهم مثل قوله (٢):

أأن حجبت عنى أجود لغيرها ... بودّى وهل يغرى المحبّ سوى البخل

أسرّ بأن قالوا تضنّ بودّها ... عليك ومن ذا سرّ بالبخل من قبلى

وبون بعيد بين حرارة هذا الغزل العفيف والغزل المماثل له فى عصر بنى أمية الذى نقرؤه عند قيس بن ذريح وأضرابه، فإن غزلهم يصور حبّا جامحا، وكأن فى صدورهم شواظ نار، فهم يألمون كما لم يألم أحد، ألما تعجز النفوس العادية عن احتماله، ألما يعصف بهم كالسيل المندفع الذى لا يترك لهم رويّة ولا أناة، إنما يترك لهم الحزن الممض والدموع الغزار. ومن أجل ذلك نقول: إن الغزل العذرى فى العصر العباسى الأول قد أخذ يضيق مجراه. لأنه لا يبلغ من التأثير فى النفس والقلب ما يبلغه الغزل العفيف الأموى، وكأنما أفسدت الحضارة هذا الفن، فإذا هو يجرى فيه التكلف ولا يكاد يؤثر فى العاطفة والشعور إلا قليلا.

على أنه من الخطأ أن نصع حدّا فاصلا فى هذا العصريين الغزل العفيف والغزل


(١) أغانى ١٢/ ١٤٤.
(٢) أغانى ١٢/ ١٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>