الصريح فإنه تلقانا عند المصرحين الذين لا يحتشمون ولا يتوقّرون، والذين يعبرون عن الحب الجسدى حب الغرائز الذى لا يخلو من الفسوق والإثم أسراب مختلفة من الحب المبرّح تجعلهم يقتربون أحيانا من أصحاب الحب العفيف، واقرأ فى بشار مثلا فستجد عنده كثيرا من الغزل الآثم، وستجد بجانبه غزلا، فيه لوعة. وفيه ألم وسهاد، وفيه صبوة يسودها غير قليل من الاحتشام، على نحو ما يلقانا فى أشعاره لصاحبته عبدة، ومثله أبو نواس فى أشعاره لجنان جارية الثقفين، وقد ظلت تحلق بعيدا عنه وراء السحب. والحب يضنيه ويبرّح به، ونضرب مثلا من شعر هؤلاء الخليعين الماجنين يصور كيف كان الحب أحيانا يستأثر بكل ما فى قلوبهم من هوى وعاطفة، وكيف كانوا يتعمقون فى دقائقه تعمقا يفضى إلى كثير من السعة والجمال، وهو هذه القطعة التى أنشدها صاحب الأغانى لآدم حفيد عمر ابن عبد العزيز، وكان خليعا ماجنا فى أول أمره، وفيها يقول لصاحبة له (١):
أحبّك حبّين: لى واحد ... وآخر أنّك أهل لذاك
فأما الذى هو حبّ الطّباع ... فشئ خصصت به عن سواك
وأما الذى هو حبّ الجمال ... فلست أرى ذاك حتى أراك
ولست أمنّ بهذا عليك ... لك المنّ فى ذا وهذا وذاك
وقد أدخلت رابعة العدوية تعديلا قليلا على هذه القطعة، فأصبحت أمّا للشعر الصوفى كله على نحو ما سنرى فى حديثنا عن شعراء الزهد. وفى الأغانى حشد هائل من أشعار عباسية تتخلص من المادة وأدرانها وتصور جحيم الحب ونعيمه، كانت تجرى على ألسنة المجان وأشباههم.
ومرّ بنا فى الفصل الرابع أن شعراء هذا العصر استخرجوا كثيرا من دفائن المعانى فى غزلهم، فقد كان عقلهم خصبا يقتدر على تشعيب المعانى وتحليلها واستنباط كثير من دقائقها. وكثير من غزلهم لا يصور ذلك فحسب، بل يصور أيضا حسهم المترف الدقيق وشعورهم الرقيق المرهف، وقد صورنا ذلك من بعض الوجوه فى حديثنا عن أعلامهم فى الفصل الخامس. وظاهرة ثالثة هى كثرة العبارات اللينة