للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى غزلهم، وهو شئ طبيعى مردّه إلى حياتهم المتحضرة وأنهم كانوا يتجهون بأكثر غزلهم إلى الجوارى المغنيات، ولم يكنّ متبدّيات إنما كن متحضرات، فكانوا يختارون لهن اللفظ السهل البسيط الذى يلمس القلوب لمسا بدون أى حجاب. وظاهرة رابعة هى شيوع الأوزان المجزوءة والقصيرة فى هذا الغزل، وقد أوضحنا فى كتاباتنا عن عصر بنى أمية نشوء هذه الظاهرة فى شعر الغزل الأموى بسبب معانقته لنظرية الغناء التى استحدثها الموالى الأجانب، وكيف أن هذه النظرية دفعت الشعراء دفعا إلى الملاءمة الدقيقة بين غزلهم وأصوات الغناء، ووضعه بحيث يؤدّى ما يريدونه من مدّ أصواتهم بالألحان والهمس بها، وهى غاية أحدثت فى الأوزان القديمة كثيرا من التجزئة وكثيرا من صور الزحافات، وما زالت هذه الصور تتسع حتى استكشف الوليد بن يزيد وزن المجتث.

وقد بسطنا فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» كيف أن هذه الظاهرة نمت فى غزل العباسيين بنمو الغناء، وكيف دفعت إلى ظهور أوزان جديدة، هى أوزان المقتضب والمضارع والمتدارك. وفى الفصل الرابع من هذا الكتاب تصوير موجز لذلك. وينبغى أن ننبّه هنا إلى أن الغزل هو الذى دفع الشعراء دفعا إلى التحوير فى الأوزان القديمة تحويرا نفذوا منه إلى كثير من صور التجديد فيها وفى القوافى.

وظاهرة خامسة تقترن بالجوارى اللائى كان ينظم فيهن الشعراء، وذلك أن كثيرا منهن كن مثقفات يحسنّ صوغ الشعر ونظمه، فكان الشعراء يراسلونهن، وكانوا أحيانا يفضون إليهن ويتطارحون معهن شعر الغزل. ومن أشهرهن فى هذا الباب عريب جارية المأمون ومتيم جارية على بن هشام ودنانير جارية البرامكة وقد عقد ابن المعتز فى آخر كتابه «طبقات الشعراء» فصولا لطائفة منهن، على رأسهن عنان جارية الناطفى، ويقول ابن الجراح: «كانت تجلس للشعراء ويجتمعون إليها، فيلقى عليها كل رجل منهم الأبيات الغريبة والمعانى النادرة فتجيبه بديها (١)» ويروى بعض محاوراتها مع أبى نواس، من ذلك أنه دخل عليها فوجد الناطفى مولاها قد ضربها وهى تبكى فقال:


(١) كتاب الورقة لابن الجراح ص ٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>