المهدية، فلم يعد عندها من المال ما تستطيع أن تعدّ به أسطولا ضخما يقف لأسطول النورمان، وكان للدولة العبيدية أسطول قوى أيام مقامها بالمهدية حتى إذا بارحها المعز الفاطمى إلى مصر لم تعد تلك الدولة تعنى بأسطولها إلا بعض سفن تحرس سواحلها، ويدل على مدى ما كان يشعر الخلفاء الفاطميون تجاه النورمان الصقليين وأسطولهم من خزى أن نجد الخليفة الفاطمى الحافظ (٥٢٤ - ٥٤٤ هـ) حين يستولى روجار الثانى على جزيرة جربة التونسية لا يكتب إليه مهدّدا متوعدا، بل يكتب إليه متخاذلا ردّا على رسالة له كما سجل ذلك القلقشندى فى الجزء السادس من صبحه ص ٤٥٨ قائلا: «وأما ما ذكرته من افتتاحك الجزيرة المعروفة بجربة لما شرحته من عدوان أهلها. . واجترائهم فى الطغيان على أسباب لا يجوز التغافل عن مثلها. . فإن من كانت هذه حالته حقيق أن تكون الرحمة عنه نائية، وخليق أن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية (١)».
وبدلا من أن يعد أسطولا لإخراج النورمان على وجوههم من صقلية التى طالما طعم هو وآباؤه من خيراتها وطيباتها أرسل إليه هذا الخطاب المخزى. ومن الغريب أن الحملات الصليبية بدأت بعد تمام استيلاء النورمان على صقلية بسبع سنوات، وقد ظللنا ننازلها نزالا عنيفا قرنين من الزمان والبحر المتوسط بحيرة نورمانية، وهم يغدون فيه ويروحون، ولو أن أسطول صقلية الإسلامية كان لا يزال قائما لفلّ من قوتهم بل لأغرق كثيرا من سفنهم المتجهة إلى ساحل الشام ومصر، بل أيضا إلى ساحل تونس على نحو ما هو معروف من حملة لويس التاسع عليها وموته تحت أسوارها سنة ٦٦٩ هـ/١٢٧١ م. ويتضح من ذلك أن صقلية لم تكن جزيرة إسلامية فقدها المسلمون فحسب بل كانت درعا كبيرا لهم يحمى ثغورهم على سواحل المتوسط، حتى إذا سقط هذا الدرع أخذ الصليبيون يجوبون المتوسط وأخذ النورمان الصقليون يغيرون على سواحل إفريقية التونسية، وكانت آخر غاراتهم وأشدها على تلك السواحل غارتهم سنة ٥٤٣ هـ/١١٤٩ م فى عهد روجّار الثانى وابنه غليوم واغتصابهم لمدينة المهدية وغالب المدن الساحلية الشرقية: قابس وصفاقس وسوسة، وكان ذلك بعد احتلال جربة التى هنأهم بها الخليفة الفاطمى بقليل. وكان ذلك بسبب ما حدث فى إفريقية التونسية من قيام عصر أمراء الطوائف بعد الهجرة الهلالية السليمية وتنابذ هؤلاء الأمراء وتحاربهم ومحاولة بعضهم الاستعانة بصاحب صقلية ضد إخوته وأهله. ولولا أن قيّض الله لإفريقية التونسية عبد المؤمن أمير الموحدين بالمغرب، فقضى فيها على هؤلاء الأمراء المتنازعين وقهر نصارى النورمان المستولين على الساحل التونسى ومدنه وعلى جربة وطرابلس لظلوا بها طويلا إذ أخرجهم على وجوههم، وسحقهم سحقا ذريعا بحيث لم يعد النورمان بعده يحاولون احتلال الساحل التونسى.