باختيار ألفاظه وتفصيلها على المعانى بحيث تكون بقدرها لا فاضلة عنها ولا مقصّرة، كما ينصحه بأن تخلو ألفاظه من كل غريب وكل تعقيد، وأن تؤدى دلالتها أداء واضحا مهما كانت دقيقة عسيرة وأن تتلاءم معها بحيث تؤديها أداء تاما يحيط بدقائقها إن كانت من الدلالات الغامضة، وفى الوقت نفسه تلقى عليها كل ما يمكن من أضواء تكشفها من جميع أطرافها، مع تذليلها وتيسيرها وعرضها فى لغة متوسطة بين لغة العامة المبتذلة ولغة الأعراب الخشنة المملوءة بالغريب.
وينصح من لا تواتيهم طبائعهم بالرصف الحسن للألفاظ ووضعها فى مواضعها الصحيحة دون نبو أو شذوذ أن يكفّوا أنفسهم عن صناعة البيان والكلام البليغ، وأولى منهم بهذا الكف والهجران لتلك الصناعة من تقعد بهم طبائعهم مهما أجهدوا أنفسهم عن الإتيان بشئ من الكلام له روعة أو ما يشبه الروعة. ولا يكفى للبليغ أن يلائم بين كلامه ومعانيه أو بعبارة أخرى بين كلامه والموضوع الذى يتحدث عنه، بل لا بد له من ضميمة ثانية هى إحسانه الملاءمة بين كلامه والمستمعين وأحوالهم النفسية والعقلية، بحيث يجدون فى كلامه اللذة والمتاع، ومن هنا يطلب إلى المتكلم إذا خاطب أوساط الناس أن لا يرتفع عن مداركهم بما يورد عليهم من اصطلاحات المتكلمين، حتى لا تنقطع الصلة بينه وبينهم، أما إذا خاطب المتكلمين فلا بأس من إيراده لهذه المصطلحات التى يفهمونها فهما حسنا، والتى قد يجدون فيها شيئا من المتاع.
وملاحظات كثيرة أخرى كان يلاحظها المتكلمون معتزلة وغير معتزلة فى شئون البيان والبلاغة، وهى متناثرة فى كتاب البيان والتبيين للجاحظ، ولا بد أن ملاحظات أخرى سقطت منه ولم يسجلها. ولم يكن المتكلمون وحدهم الذين يتعمقون فى معرفة أصول البيان والبلاغة، فقد كان يشركهم فى ذلك كتّاب الدواوين والمترجمون، ومن خير من يمثلهم فى مطالع العصر ابن المقفع، ويروى أنه سئل عن البلاغة وتفسيرها، فقال (١):
«البلاغة اسم جامع لمعان تجرى فى وجوه كثيرة، فمنها ما يكون فى السكوت، ومنها ما يكون فى الاستماع، ومنها ما يكون فى الإشارة، ومنها ما يكون فى الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون شعرا ومنها ما يكون سجعا