وخطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحى فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السّماطين وفى إصلاح ذات البين فالإكثار فى غير خطل والإطالة فى غير إملال. وليكن فى صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذى إذا سمعت صدره عرفت قافيته. فقيل له: فإن ملّ السامع الإطالة التى ذكرت أنها حقّ ذلك؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذى يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدوّ فإنه لا يرضيهما شئ، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شئ لا تناله، وقد كان يقال: رضا الناس شئ لا ينال».
وابن المقفع يذكر كل فنون الكلام ويطلب فيها الإيجاز والتركيز الدقيق، ويلتفت إلى خطب المحافل والصلح ويطلب فيها الإطناب فى غير خطل ولا إملال.
ويضع قاعدة مهمة أن يكون فى صدر الكلام ما يدل على غرضه، وهو ما سماه البلاغيون، فيما بعد، باسم براعة الاستهلال، كما يضع للشعر قاعدة ثانية هى أن يتلاءم صدر البيت مع قافيته حتى لكأنه يستدعيها استدعاء وهو ما سماه البلاغيون باسم ردّ الأعجاز على الصدور. ويلاحظ ملاحظة تامة أن لكل من الإيجاز والإطناب فى الكلام مقامه، وأنه ينبغى دائما أن يستوفى الكلام حقوقه من النصاعة والبلاغة والبيان.
وقد تحولت الدواوين الكثيرة المعقدة التى عرضنا لها فى الفصل الأول إلى ما يشبه مدارس بيانية كبيرة، إذ كان لا بد للشبان الذين يعملون فيها من إتقانهم لصياغة الكلام بحيث لا يدخله ضعف ولا ابتذال وبحيث لا يعلو على أفهام العامة الذين كانوا يوجّهون إليهم منشورات دار الخلافة. وكان هؤلاء الشبان يقيمون أولا بأبواب الدواوين متعرضين لامتحان قاس، فمن أظهر كفاءته فيما طلب إليه من بعض الرسائل رفع أمره إلى رؤساء الديوان، فوظفوه، وإن لم يحسن ما طلب إليه ردّوه. وجعلهم ذلك يتساءلون عن البلاغة ومتى يصبح الكلام بليغا وما العيوب التى تعوق بلاغته، ودارت هذه الأسئلة بين رؤساء الدواوين وبلغائها، المفوهين، وكانوا يمثلون الذوق الحضارى المترف فى أدق صوره فدقّقوا فى كلامهم