للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وواضح جناسه التام بين «أعماله» و «أعمى له» فى البيت الأول، وبين «أفعى له» و «أفعاله» فى البيت الثانى. ولم نتحدث حتى الآن عن الحكم والأمثال فى أشعاره، وكان يعرف كيف يصوغها صياغة محكمة، ومن أروع ما له فى هذا الجانب نونيته، وهى طويلة، وفيها يقول:

زيادة المرء فى دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران

يا عامرا لخراب الدّار مجتهدا ... بالله هل لخراب العمر عمران

ويا حريصا على الأموال يجمعها ... أقصر فإنّ سرور المال أحزان

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان

وكن على الدهر معوانا لذى أمل ... يرجو نداك فإن الحرّ معوان

واشدد يديك بحبل الله معتصما ... فإنه الرّكن إن خانتك أركان

من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... إليه والمال للإنسان فتّان

والناس أعوان من واتته دولته ... وهم عليه إذا عادته أعوان

واشتهرت له هذه القصيدة الحكمية منذ حياته وانتشرت فى العالم العربى، وأخذت الاجيال العربية تردّدها فى كل بلد، حتى لتصبح قصيدة شعبية، ينشدها الناس فى كل مكان، وإلى زمن قريب كان المنشدون ينشدونها فى مقامى القاهرة. ولعل فى هذا ما يدل-من بعض الوجوه-على ما يمتاز به الشعر العربى الفصيح من شعبيته، فقصيدة تنظم فى أقصى بيئاته فى الشرق فى «بست» بأفغانستان الحالية تنشد فى قلب العالم العربى بالقاهرة، ويحفظها الشباب ويستظهرونها فى المغرب كما يستظهرونها فى المشرق. ويعقد الثعالبى فصلا طويلا لحكم البستى، ووراءها حكم وأمثال كثيرة فى ديوانه، ومن طرائفه الحكمية قوله:

لا تحقر المرء إن رأيت به ... دمامة أو رثاثة الحلل

فالنّحل شئ على ضؤولته ... يشتار منه الفتى جنا العسل (١)

وقوله:

لا يستخفّنّ الفتى بعدوّه ... أبدا وإن كان العدوّ ضئيلا

إن القذى يؤذى العيون قليله ... ولربما جرح البعوض الفيلا

وقوله:

ألم تر أنّ المرء طول حياته ... معنّى بأمر لا يزال يعالجه


(١) يشتار: يجتنى

<<  <  ج: ص:  >  >>