ففارقنى من غير ذنب جنيته ... وأبقى بقلبى حرقة وتوجّعا
عفا الله عنه ما جناه فإننى ... حفظت له العهد القديم وضيّعا
وهى قطعة طريفة، إذ يتصور البورينى أنه هو وصاحبته كانا مثل غصنين لشجرة ضخمة من شجر البان ولدا معا وعاشا معا صيفا وشتاء وتغذيا معا وتناولا الحياة تناولا واحدا، ينعمان بشدو الحمام وينهلان من كئوس السحاب منتشين هانئين، لا عذول ولا حسود. وفجأة تهجره صاحبته من غير ذنب جناه. ويصطلى قلبه بنار الحب المحرقة وأوجاع الهجران المؤلمة، ومع ذلك يدعو الله أن يغفر لصاحبته جنايتها، إذ ضيعت العهد والميثاق القديم، أما هو فلا يزال ذاكرا له بل حافظا أمينا. ويقول:
منازل هذا القلب كنّ أو اهلا ... وها هى من بعد الفراق طلول
ويا ظبى هل بعد النّفار تأنّس ... ويا بدر هل بعد الأفول قفول
ويا منزل الأحباب أين ترحّلوا ... وهم فى فؤادى-ما حييت-نزول
يميلون عنى للوشاة وإننى ... إليهم وإن طال الصدود أميل
علىّ لهم حفظ الوداد وإن جنوا ... وليس إلى نقض العهود سبيل
وقد فارقته صاحبته وأصبحت منازل قلبه طلولا دارسة، وإنه ليتساءل متحسرا هل بعد النفور تألف وهل بعد أفول البدر قفول ورجوع، ويسأل منزل الجيبة وقومها أين ترحلوا، ويقول إنهم نزول فى قلبه لا يفارقونه أبدا، وحتى إن هم سمعوا للوشاة وأطالوا له الصدود والهجران فسيظل متعلقا بهم حافظا لودادهم لا ينقض العهود ولا ينكثها، بل سيزداد تعلقه وحبه واستمساكه. وما يلبث أن يخاطب فى نفس القصيدة قمريا أو كما يسميه ابن ورقاء أى حمامة رمادية اللون قائلا:
وما هاجنى إلا ابن ورقاء سحرة ... له فوق أفنان الرياض هديل
يردّد فى صحف الرياض قصائدا ... من الشوق يمليها لنا ويميل
يخيّل أن البين آذى فؤاده ... وكيف ولما ينأ عنه خليل
ولم تحتكم فيه الليالى ولم يبن ... عليه لبين رقّة ونحول
أما والهوى لو ذقت ما ذقت فى الهوى ... لما ازدان بالأطواق منك تليل