المقدس، وفيه أتم تعلمه. وعاد إلى دمشق فاشتغل فيها بالتدريس فى مدارسها والوعظ فى مساجدها، وتولى منصب القضاء فى الحج الشامى سنة ١٠٢٠. وكان عالما ثبتا حفظة فصيح العبارة. وله شرح على ديوان ابن الفارض الصوفى بحسب المعنى الظاهر، دون أى محاولة لإقحامه بين المتصوفة المتفلسفين أصحاب أفكار الحلول ووحدة الوجود. وكان سنّيّا شافعيا. وله كتاب فى تراجم الأعيان لا يزال مخطوطا بدار الكتب المصرية، وأفاد منه المحبى فى كتابه خلاصة الأثر.
وكان البورينى شاعرا مجيدا، وجمع ديوان شعره، ومنه مخطوطة فى مكتبة كوبريلى بالآستانة، ويقول فيه الشهاب الخفاجى:«ديباجة الدنيا ومكرمة الدهر، ونكتة عطارد التى يفتخر بها الفخر» وروى له طائفة من غزله، وهو فيه يستقى من نفس المعين الذى استقى منه الشاب الظريف، ونقصد معين الشعر الصوفى وما فيه من وجد ملتاع، ويكفى أنه قرأ ديوان ابن الفارض بل لقد شرحه ووقف عند كل معنى من معانيه وكل لفظ من ألفاظه، فطبيعى أن يتأثر بحبه الإلهى الظامئ أبدا وما فيه من خوالج وخواطر لا تكاد تحصى، تصور الحب الملتاع الذى يصحبه دائما الفراق والحرمان، فما يكاد يهنأ بالحب لحظة حتى ينعق له غراب البين، ويظل فى نعيقه وهو يتلهف أشد التلهف على رؤية صاحبته بمثل قوله:
يقولون فى الصبح الدعاء مؤثّر ... فقلت نعم لو كان ليلى له صبح
ويا عجبا منّى أروم لقاءه ... وفى جفنه سيف ومن قدّه رمح
وإنسان عينى كيف ينجو وقد غدا ... يطول له فى لجّ مدمعه سبح
وليس عجيبا أنّ دمعى أحمر ... وفى مهجتى قرح وفى مقلتى رشح
فهو يعيش بدون صاحبته فى ليل لا آخر له، ويعجب كيف يريد لقاءها وهى مسلحة بجفنها الساحر وقوامها الممشوق، إنه لم يعد له منها سوى الدموع التى يغرق فيها إنسان عينيه، وما زالت عيناه تدمع حتى استحال دمعها دما، ويشعر كأن فى مهجته جرحا لا يبرأ وفى مقلته رشحا لا يرقأ.
ويقول:
وكنّا كغصنى بانة قد تألّفا ... على دوحة حتى استطالا وأينعا
يغنّيهما صدح الحمام مرجّعا ... ويسقيهما كأس السحائب مترعا
سليمين من خطب الزمان إذا سطا ... خليّين من قول الحسود إذا سعى