للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سألقى المنايا لم أخالط دنيّة ... ولم تسر بى فى المخزيات قلوص (١)

وكانت له جارية شاعرة مغنية تسمى دنانير وكان ذوو المروءة من أهل الأدب يقصدونها للمحادثة والمساجلة فى الشعر، وكان يقدرها لظرفها وسعة ثقافتها وقدرتها على المشاركة فى كل الأحاديث، واختطفها منه الموت، فحزن حزنا عميقا، صوّره فى قوله يرثيها، وقد استسلم لأمر ربه:

الحمد لله لا شريك له ... يا ليت ما كان منك لم يكن

إن يكن القول قلّ فيك فما ... أفحمنى غير شدّة الحزن

وله مرثية طريفة فى خاله إبراهيم بن أدهم، وهى ترسم صورة العابد الناسك فى العصر العباسى الأول وكيف كان يعيش على الكفاف قانعا به، مزدريا الدنيا ومتاعها، مقبلا على عبادة ربه، قامعا لدواعى الهوى فى نفسه، متحليا بالفضائل الرفيعة، لا يعرف الغضب ولا الطيش، إنما يعرف الحلم والمثل الخلقية العليا، يعيش صامتا مفكرا فى ملكوت ربه الأعلى، حتى إذا نطق استولى على القلوب والأفئدة ببيانه الرائع. وهو دائما مستكين خاضع لربه متواضع أروع ما يكون التواضع الذى لا يخدش مروءة ولا كرامة، حتى إذا رعدت الكتيبة بصواعق الموت تقدم الصفوف يناضل مناضلة الليوث الكواسر. وفى ذلك كله يقول مخاطبا بعض من لا يزالون يستزيدون من الغنى والثراء:

رأيتك ما يكفيك ما دونه الغنى ... وقد كان يكفى دون ذاك ابن أدهما

وكان يرى الدنيا صغيرا عظيمها ... وكان لحقّ الله فيها معظّما

أمات الهوى حتى تجنّبه الهوى ... كما اجتنب الجانى الدّم الطالب الدّما

وللحلم سلطان على الجهل عنده ... فما يستطيع الجهل أن يترمرما (٢)

وأكثر ما تلقاه فى القوم صامتا ... وإن قال بذّ القائلين وأحكما

يرى مستكينا خاضعا متواضعا ... وليثا إذا لاقى الكتيبة ضيغما


(١) القلوص من النوق: الشابة.
(٢) يترمرم: لا يتحرك للكلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>