للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يكرر الحديث عن فطام النفس من الشهوات واللذائذ وأنه ثقيل وأن السعيد من عصى هواه فى طاعة ربه، فاجتنب المحارم والماثم، ويلاحظ أن من الناس من يلوك الأحاديث فى عواقب اتباع الهوى، وكأنه يقول بفمه ما ليس له ظل فى قلبه، أو كأنه يعظ ولا يتعظ، وفى ذلك يقول:

ما من روى أدبا ولم يعمل به ... ويكفّ عن زيغ الهوى بأديب

حتى يكون بما تعلّم عاملا ... من صالح فيكون غير معيب

ولقلما تغنى إصابة قائل ... أفعاله أفعال غير مصيب

فالكلمة إن لم تصدر من القلب لم يكن لها تأثير فى القلوب، وعظة الواعظ إن لم تشفع يعمله كان هو أول من لا ينتفع بها، وكانت كالسراج يضئ الدار ويحرق نفسه.

وكان أصدقاؤه من طلاب الدنيا لا يزالون يتلومونه على قعوده عن أبواب الحكام والأمراء، بينما هو يحسن نظم الشعر، ونظراؤه يكسبون به الألوف المؤلفة، وهو يعيش فى كفاف وبلغ وصبابة، فكان يردهم ردّا منكرا، إذ أعرض عن الدنيا مصمما، غير راغب فى متاعها، فحسبه متاع الآخرة الذى ينتظره والذى يحفظ على نفسه من أجله ماء وجهه ويصون كرامته، فلا يبتذلها لمخلوق، فضلا عن أن يمدحه ويداهنه ويطلب منه ما ينبغى أن لا يتجاوز فى طلبه ربه. إنه إن فعل طعن وجهه وحياءه طعنة نجلاء، بل طعن زهده وتقواه، إذ يصبح من طلاب الدنيا لا من طلاب الآخرة ومن يؤثرون نعيم العاجلة على نعيم الباقية، يقول مجيبا بعض لائميه:

تؤنّبنى-أن صنت عرضى-عصابة ... لها بين أطناب اللئام بصيص (١)

يقولون لو غمّضت لازددت رفعة ... فقلت لهم إنى إذن لحريص (٢)

أتكلم وجهى-لا أبا لأبيكم- ... مطامع عنها للكرام محيص (٣)

معاشى دوين القوت، والعرض وافر ... وبطنى عن جدوى اللشام خميص (٤)


(١) الأطناب: حبال الخيام والاستعارة واضحة. بصيص: بريق.
(٢) غمضت: تساهلت. حريص: جشع
(٣) تكلم: تجرح.
(٤) الجدوى: العطية. خميص: ضامر.

<<  <  ج: ص:  >  >>