للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للمعارك الدائرة بينهم، إذ نراه يعترف بهزيمة قومه إن هزموا (١)، وبفراره إن ولّى الأدبار ونكص على أعقابه (٢)، وفى أثناء ذلك لا يبخل على أعدائه بوصف شجاعتهم وبلائهم فى الحروب، ولهم فى ذلك قصائد تلقب بالمنصفات، مرّ الحديث عنها.

وجاءهم ذلك من أنهم لا يبدلون فى الحقائق ولا يعدّلون فى علاقاتها ومعانيها، بل يخضعون لها ويضبطون خيالاتهم وانفعالاتهم إزاءها. ونحن بهذا الوصف إنما نقصد إلى جمهور أشعارهم، فقد تندّ بعض أبيات تحمل ضربا من المبالغة، ولكن ذلك يأتى شاذّا ونادرا. ونظن ظنا أن شيوع هذه الروح فيهم هو الذى طبع أفكارهم بنزعة تقريرية، إذ تعودوا أن يسندوا أقوالهم بذكر الحقيقة عارية دون خداع يموّهها أو طلاء يزيفها. ومن هنا كانت معانيهم محددة تحديدا يبرزها فى أتم ما يكون من ضياء، ومن ثمّ تبدو فى كثير من جوانبها كأنها شئ راسخ ثابت. ويتضح ذلك فى حكمهم التى تصور أحكاما سليمة وخبرات صائبة كما يتضح فى جوانب كثيرة من تأبينهم ومديحهم وغزلهم وحماستهم، إذ يقدم الشاعر المعانى منكشفة كأنها أشياء صلبة محسوسة، فهى حقائق تسرد سردا وقلما شابها الخيال، إلا ليزيدها إمعانا فى الوضوح والجلاء.

واقرأ فى أشعاره فستجد معانيه حسية، واضحة، لا يقف بينك وبينها أى غموض، أو أشراك ذهنية تضل فى ممراتها وشعبها الفكرية، إذ يعرض عليك هذه المعانى دائما مجسمة فى أشخاص أو فى أشياء. وخذ فضائلهم التى طالما أشادوا بها فى حماستهم ومراثيهم ومدائحهم، فستجدها دائما تساق فى مادة الإنسان الحسية، فهم لا يتحولون بها إلى معنى ذهنى عام يصور إحساسهم بالبشرية جميعها فى هذه الفضيلة أو تلك، فالكرم مثل البخل والوفاء وغيرهما من الفضائل والرذائل لا بد أن يقترن بشخص معين يتحدثون عنه.

وهذه النزعة فى الشاعر الجاهلى جعلته لا يحلل خواطره ولا عواطفه إزاء ما يتحدث فيه من حب أو غير حب، فهو لا يعرف التغلغل فى خفايا النفس الإنسانية ولا فى أعماق الأشياء الحسية. وتتضح هذه النزعة فى خياله وتشبيهاته فهو ينتزعها من عالمه المادىّ، ولنرجع مثلا إلى تشبيهاته للمرأة فهو يشبهها بالشمس والبدر والبيضة والدرّة والدّمية والرمح والسيف والغمام والبقرة والظبية والقطاة، ويشبه


(١) انظر مثلا المفضليات رقم ١٠٨.
(٢) المفضليات رقم ٣٢ بيت ١ - ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>