وعلى هذه الشاكلة من الحسية فى التشبيه الشعر الجاهلى جميعه، فالشاعر يستقى أخيلته من العالم الحسى المترامى حوله. وجعلهم تمسكهم بهذه الحسية إذا وصفوا شيئا أدقّوا النظر فى أجزائه وفصّلوا الحديث فيها تفصيلا شديدا، وكأنما يريدون أن ينقلوه إلى قصائدهم بكل دقائقه، وكأن الشاعر نحات لا يصنع قصيدة، وإنما يصنع تمثالا، فهو يستوفى ما يصفه بجميع أجزائه وتفاصيله الدقيقة.
وخير مثل لذلك وصف طرفة لناقته فى معلقته فقد نعت جميع أعضائها وكل دقيقة فيها وجليلة. ولم يترك منها شيئا دون وصف أو بيان.
وهذه الحسية فيهم جعلهم لا يتسعون بمعانيهم، بل جعلتهم يدورون حول معان تكاد تكون واحدة، وكأنما اصطلحوا على معان بعينها، فالشعراء لا ينحرفون عنها يمنة ولا يسرة، فما يقوله طرفة فى الناقة يقوله فيها غيره. وما يقوله امرؤ القيس فى بكاء الديار يقوله جميع الشعراء، واقرأ حماسية كمعلقة عمرو بن كلثوم فستجد الشعراء الحماسيين لا يكادون يأتون بمعنى جديد. وقل ذلك فى غزلهم ومديحهم ورثائهم فالشعراء يتداولون معانى واحدة وتشبيهات وأخيلة واحدة. ومن ثم تبدو فى أشعارهم نزعة واضحة للمحاكاة والتقليد، وجنى عليهم ذلك ضيق واضح فى معانيهم. غير أنه من جهة ثانية أتاح لهم التدقيق فيها وأن يجلوها ويكشفوها أتم كشف وجلاء.
واقرأ فى المفضليات والأصمعيات فستجد دائما نفس المعانى. وستجد أيضا براعة نادرة فى إعادتها وصوغها صوغا جديدا. فكل شاعر يحاول أن يعطيها شيئا من شخصيته، وخذ مثلا تشبيه المرأة بالظبية، فشاعر يشبهها بها تشبيها عاديا. وشاعر يشبهها بها وهى تمد عنقها إلى شجر السّلم الناضر، يريد أن يستتم بذلك منظرا بديعا