للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومضى شعراء العصر الأموى-على سنّة آبائهم-يستلهمون صحراءهم، مزاوجين على شاكلتهم بين حب الطبيعة وحب المرأة، إذ يفتتح الشاعر غالبا مطولاته بوصف أطلال الديار التى قضى بها شبابه مع بعض صواحبه، ويسترسل فى الحديث عن ذكريات حبه. ولا يلبث أن يتحدث عن رحلته فى الصحراء، وما قطع فيها من مفاوز على ناقته التى يسهب فى وصفها لما لها من جمال فى نفسه، كما يسهب فى وصف فرسه إن كان فارسا، وهو فى ثنايا ذلك يحدّثنا عن كل ما تقع عليه عينه فى صحرائه ويخلّف أثرا فى ذهنه من طير وحيوان فى الأرض ونجوم وكواكب فى السماء.

وعلى الرغم من أن جمهور الشعراء لهذا العصر عاش فى بيئات متحضرة، فإن الصحراء لم تجفّ ينابيعها فى نفوسهم، بل لقد ظلت ملهمهم الأول فى أشعارهم، على نحو ما نجد عند مبرّزيهم من أمثال الفرزدق والأخطل وجرير، ومن خير ما يصور ذلك أبيات للفرزدق يوازن فيها بين طبيعة الصحراء ونهير دجيل وما يجرى فيه من سفن، موازنة يعلى فيها الطبيعة الأولى علوّا كبيرا، يقول (١):

لفلج وصحراواه لو سرت فيهما ... أحبّ إلينا من دجيل وأفضل (٢)

وراحلة قد عوّدونى ركوبها ... وما كنت ركّابا لها حين ترحل (٣)

قوائمها أيدى الرجال إذا انتحت ... وتحمل من فيها قعودا وتحمل (٤)

إذا ما تلقّتها الأواذىّ شقّها ... لها جؤجؤ لا يستريح وكلكل (٥)

إذا رفعوا فيها الشّراع كأنها ... قلوص نعام أو ظليم شمردل (٦)

وواضح أنه يؤثر الطبيعة الصحراوية البدوية على طبيعة البيئات الجديدة وما فيها من أنهار وسفن تحمل الناس فى رحلات نهرية ممتعة. وهو يعبّر بذلك


(١) ديوان الفرزدق (طبعة الصاوى) ص ٦٢٦.
(٢) فلج: واد من أودية تميم بين البصرة وحمى ضرية. ودجيل: من أنهار دجلة.
(٣) ترحل: تهيأ للرحيل.
(٤) القوائم هنا: المجاذيف بأيدى الملاحين.
(٥) الأواذى: الأمواج. الجؤجؤ: بطن السفينة من أمام، الكلكل: الصدر.
(٦) قلوص النعام: طويلة القوائم، الظليم: ذكر النعام، الشمردل: الطويل تام الخلق.

<<  <  ج: ص:  >  >>