للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متخذين إلى ذلك مقاييس كثيرة، وبلغ من حرصهم فى هذا الباب أن أهمل ثقاتهم كل ما روى عن المتهمين أمثال حماد وخلف، وكان الأصمعى خاصة لهم بالمرصاد، كما كان المفضل الضبى من قبله، وتتابع الرواة الأثبات بعدهما يحققون ويمحصون فى التراث. ومن أهمهم فى هذا الجانب ابن سلام، فقد دوّن فى كتابه «طبقات فحول الشعراء» كثيرا من ملاحظات أهل العلم والدراية فى رواية الشعر القديم من أساتذة المدرسة البصرية التى ينتسب إليها، وأضاف إلى ذلك كثيرا من ملاحظاته الشخصية.

وهذا الكتاب فى الحقيقة هو أول كتاب أثار فى إسهاب مشكلة الانتحال فى الشعر الجاهلى، وقد ردها إلى عاملين: عامل القبائل التى كانت تتزيد فى شعرها لتتزيد فى مناقبها، وعامل الرواة الوضاعين، يقول: «لما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا فى الأشعار (١)».

فالقبائل كانت تتزيد فى أشعارها وتروى على ألسنة الشعراء ما لم يقولوه، وقد أشار ابن سلام مرارا إلى مازادته قريش فى أشعار الشعراء، فهى تضيف إلى شعرائها منحولات عليهم، وقد أضافت كثيرا إلى شعر حسان (٢) «ويذكر أن من أبناء الشعراء وأحفادهم من كان يقوم بذلك، مثل داود بن متمم بن نويرة، فقد استنشده أبو عبيدة شعر أبيه متمم، ولاحظ أنه لما نفد شعر أبيه جعل يزيد فى الأشعار ويضعها، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذى على كلامه، فيذكر المواضع التى ذكرها متمم والوقائع التى شهدها، فلما توالى ذلك علم أبو عبيدة ومن كانوا معه أنه يفتعله (٣)»

ولعل فى هذا ما يدل على أن الرواة من مثل أبى عبيدة كانوا يراجعون ما ترويه القبائل، وكانوا يرفضون منه ما يتبين لهم زيفه، إما بالرجوع إلى أصول صحيحة أو إلى أذواقهم وما يحسنون من نقد الشعر ومعرفتهم بالشاعر ونظمه، ويسوق لنا


(١) ابن سلام ص ٣٩ وما بعدها.
(٢) ابن سلام ص م ١٧٩، ٢٠٤ وما بعدها.
(٣) نفس المصدر ص ٤٠

<<  <  ج: ص:  >  >>