كبرى لعبادة الله الواحد الأحد، وأخذت المساجد تبنى فى كل بقعة وفى كل بلد، وكان الفاتحون يقرءون البربر القرآن ويفقهونهم فى الدين وينشرون فيهم تعاليم الإسلام وما يدعو إليه من العبادة والنسك، وقد تميز أفراد البعثة التى أرسل بها عمر بن عبد العزيز سنة مائة للهجرة بالزهد فى عرض الدنيا الزائل، وكان منهم إسماعيل بن عبيد الذى اشتهر فى القيروان باسم تاجر الله، لأنه كان يتجر ويجعل ثلث كسبه لله، ينفقه فى وجوه الخير، وهو يمثل شخصية زهاد الدين الحنيف الأولين. فهو يعبد الله ويفقّه الناس فى الدين، ويحفّظ الناشئة القرآن فى كتّاب، وهو لا يعيش كلاّ أو عبئا على الدولة ولا عالة على الناس، بل يتجر ويكتسب من التجارة ما يقيم به أوده، ثم هو يقوم بالواجب الأكبر عليه للأمة: واجب الجهاد لأعدائها وأعداء دين الله، وبأخرة من حياته فى القيروان حمل سيفه وخرج مجاهدا لإعلاء كلمة الله فى صقلية وغرق فى البحر المتوسط سنة ١٠٧ للهجرة. ونلتقى بعده فى القيروان بزهاد كثيرين تعنى كتب الطبقات بالترجمة لهم والحديث عنهم، ومن أهمهم فى أواسط القرن الثانى الهجرى رباح بن يزيد اللخمى، وكان زاهدا وعابدا ناسكا، ونوّه به طويلا أبو العرب فى الطبقات والمالكى فى رياض النفوس.
وبالمثل نوّها بالبهلول بن راشد وزهده وورعه، وكان يعاصرهما على بن زياد أول من أدخل كتاب الموطأ لمالك بن أنس إلى إفريقية التونسية، توفى سنة ١٨٣ للهجرة، وله كتاب فى الزهد، وبالمثل لعبد الملك بن أبى كريمة مولى إسماعيل بن عبيد تاجر الله كتاب فى الزهد، وكان من أهل الفضل والورع.
ومن أهم ما سجّلته كتب الطبقات لهؤلاء الزهاد الورعين أنهم كانوا دائما يخرجون فى وقت من السنة للعبادة فى الرباطات والمحارس التى كانت متخذة على طول الساحل التونسى لإقامة المجاهدين المتربّصين بالقراصنة الغربيين أعداء الله حين يغيرون فجأة فى موضع على الساحل التونسى الطويل. ومعروف أن زيادة الله الأول الأغلبى حين أعدّ حملته المشهورة لفتح صقلية فى سنة ٢١٢ هـ/٨٢٧ م جعل قائدها أسد بن الفرات قاضى القيروان وكبير فقهائها فى زمنه.
وفى ترجمة سحنون أكبر فقهاء القيروان بعده أنه كان يرابط وقتا فى السنة بالقرب من ميناء سوسة، ومع أنه كان على شئ من الثراء كان يتخشّن فى ملبسه ومطعمه مع الورع الصادق والزهادة فى الدنيا، وكان ابنه محمد الذى خلفه فى حلقته لإقراء الطلبة يخرج وقتا فى السنة- مثل أبيه-للمرابطة وحراسة المسلمين، وتروى له مقتلة فى قراصنة الروم، فقد تصادف أن لقيهم ذات مرة وقد أشرفوا-فى غيبة الرجال-على نهب بعض الأموال وسبى الحريم فتقلد سيفه وأخذ بيده رمحه وامتطى جوادا له، ورآه بعض المرابطين فأسرعوا إليه، وكبّر وكبّروا معه، واشتبكوا فى حرب مع القراصنة، وأجهزوا على بعضهم، ففرت بقيتهم هاربة إلى البحر المتوسط وما وراءه. وإنما نسوق ذلك لندل على أن الزهاد والنساك فى الحقب الإسلامية الأولى لم يكونوا