يعيشون للزهد وعبادة ربهم فقط، بل كانوا دائما يحملون السلاح ويتقدمون الصفوف فى حرب أعداء الله والوطن، مؤمنين بأن جهاد أعداء الله لا يقل عن عبادته نسكا وقربى إليه. ولم يكونوا يعيشون عالة على المجتمع، بل كانوا دائما يحترفون حرفا تدرّ عليهم أرزاقهم، على نحو ما مرّ بنا آنفا عند إسماعيل بن عبيد تاجر الله.
وأخذ هؤلاء الزهاد والعباد يتكاثرون فى القيروان أثناء القرن الثالث الهجرى، حتى لنراهم يتخذون مسجدا سموه مسجد السبت، كانوا يقصدونه يوم السبت للذكر والعبادة، وكانوا ينشدون فيه الأشعار بتطريب فرادى وجماعة، وكأن ذلك كان مقدمة لما سيصير إليه ذكر الله فى البلدان المغربية، إذ سيصبح اجتماعات دورية للذكر فى المساجد والزوايا بعد أن كان مرتبطا بجهاد أعداء الدين والوطن ومراقبتهم على الساحل التونسى الطويل فى الرباطات والمحارس الكثيرة التى كانت تعدّ بالعشرات. وحاول-مبكرا-يحيى بن عمر الكنانى المتوفى سنة ٢٨٩ للهجرة أن يقاوم الاجتماع المار للذكر فى مسجد السبت، فألف كتابا يردهم عن هذا الطريق الذى ابتدعوه ولم يستجيبوا إليه.
ومن يقرأ التراجم فى كتاب رياض النفوس للمالكى المتوفى سنة ٤٧٢ للهجرة وكتاب معالم الإيمان للدباغ وذيله لابن ناجى المتوفى سنة ٧٣٨ يلقاه كثير من الزهاد النساك وخاصة بين الفقهاء والتقاة، وأخذ التصوف ينشط فى الدولة الحفصية منذ مؤسسها أبى زكريا، وكان ورعا تقيا، وكان كلما بنى مسجدا نهض بأول أذان فيه قربى لربه، وبنى أمراء الدولة كثيرا من المساجد فى تونس وبلدانها. وأخذ التصوف ينشط فى عهد تلك الدولة، وكان بعض أئمته الأندلسيين ينزلون القطر التونسى قبل تلك الدولة فى القرن السادس الهجرى، وممن نزل بها منهم أبو مدين شعيب، وهو من إشبيلية، أجاز البحر إلى المغرب، فاشتهر به خبره فى التصوف والنسك، وتوفى بتلمسان سنة ٥٩٤ هـ/١١٩٧ م وله فيها زاوية كبيرة، وله أتباع كثيرون، وكان قد نزل بتونس فترة، وتبعه فى طريقته الصوفية غير تونسى، منهم أبو سعيد خلف بن يحيى التميمى المتوفى سنة ٦٢٨ هـ/١٢٣٠ م والمدفون ببلدة جبل المنار بالقرب من قرطاجة، والبلدة مسماة باسمه وفى رأيى أن أبا مدين كان ينزع فى تصوفه المنزع الفلسفى، وهو المنزع الذى بدأه الحلاج والذى كان أصحابه يؤمنون بالاتحاد بين المخلوقات والخالق جلّ شأنه أو بعبارة أخرى بين الإنسان وربه، واقترن بذلك الإيمان بالفناء فى الذات العلية، والباحثون فى هذا المنزع، منهم من يقف عند الظاهر من عبارات أصحابه وأشعارهم فينسبونهم إلى القول بالاتحاد مع الذات الإلهية وأكثر من ذلك بالحلول وأن الله يحل فى الإنسان وجزئيات الطبيعة، ويؤثر عن أبى مدين أنه كان يقول:
«بى قل، وعلىّ دلّ، فأنا الكلّ» والعبارات قد تفسّر بأن أبا مدين يؤمن بالاتحاد فى الذات العلية وحلولها فيه وقد تفسّر بأنه إنما يؤمن بالفناء فى الذات الربانية. وزار تونس بعده من أصحاب