عند الوالد الحانى إلى أن وافاه القدر. وتتقلب بمحمد أحوال وأسفار وأعمال فى الدواوين إلى أن استقر أمره فى العمل مع أبى الفتح البستى فى ديوان أبى منصور سبكتكين مؤسس الدولة الغزنوية، وظل يعمل بعد وفاة سبكتكين مع ابنه محمود حين استولى على صولجان الحكم، وكان محمود يعترف-كما مر بنا-بالسلطة الروحية للخليفة العباسى، فخلع عليه لقب يمين الدولة وأمين الملة. واتسع ملكه-كما أسلفنا-حتى شمل خوارزم وماوراء النهر وإيران الوسطى والشرقية وكشمير والبنجاب فى الهند. وعنى أبو النصر العتبى بكتابة تاريخ هذا الفاتح العظيم وسمى كتابه اليمينى نسبة إلى لقب محمود الذى خلعه عليه الخليفة:«يمين الدولة» وقد انتهى به عند سنة ٤٠٩ مع أنه عاش حتى سنة ٤٢٧. وربما كان فى ذلك ما يدل على أنه صنفه فى وقت متأخر، وأنه لم تتح له الفرصة لتكملته. ويقول السبكى:
«وأهل خوارزم وما والاها يعتنون بهذا الكتاب، ويضبطون ألفاظه أشد من اعتناء أهل بلادنا بمقامات الحريرى» وهو مطبوع فى القاهرة مع شرح المنينى له فى القرن الماضى، ونسوق القطعة التالية منه مع ما سجله من ألقاب محمود الغزنوى، يقول:
«الأمير السيد، الملك المؤيد، يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود بن ناصر الدين أبى منصور سبكتكين، ملك الشّرق بجنبيه، والصدر من العالم ويديه، لانتظام الإقليم الرابع بما يليه من الثالث والخامس فى حوزة ملكه، وحصول ممالكها الفسيحة وولاياتها العريضة فى قبضته، ومصير أمرائها وذوى الألقاب الملوكية من عظمائها تحت حمايته، وجبايته، واستدرائهم «دفعهم» من آفات الزمان بظل ولايته، ورعايته، وإذعان ملوك الأرض لعزته، وارتياعهم بفائض هيبته، واحتراسهم-على تقاذف الديار، وتحاجز الأنجاد والأغوار-من فاجئ ركضته».
والعتبى بكتابته تاريخ محمود الغزنوى بهذه اللغة المسجوعة يحاكى الصابئ فى كتابه «التاجى فى ملوك بنى بويه» الذى كتبه قبله بنفس اللغة، وقد سقط «التاجى» من يد الزمن بحيث لا نستطيع المقارنة بين العملين. ويبدو أن كتاب العتبى كان أخف، فتعلقت به القلوب والأفئدة، حتى قالوا إن من جاءوا بعده كانوا يتحفظونه ويتدارسونه ويتخذونه قدوة لهم فى البلاغة. وعلى شاكلته فى خفة السجع وعذوبته رسائله، فإن الفصول التى حكاها الثعالبى منها تتخذ نفس الأسلوب فلا تكلف ولا تصنع ولا تعمل من مثل قوله فى رقعة كتبها فى الإنكار على من يذم الدهر:
«عتبك على الدهر داع إلى العتب عليك، واستبطاؤك إياه صارف عنان اللّوم إليك، فالدّهر سهم من سهام الله منزعه عن مقابض أحكامه، ومطلعه من جانب