الذوات إلا ذاته فإنه كان لا يزال يشعر بها، وكان يدرك فى وضوح أن هذا الشعور شوب يشوب المشاهدة الإلهية المحضة، وما زال يجاهد فى الاتحاد بربه يقول:
«ما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص فى مشاهدة الحق حتى تأتّى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد والتى هى الذوات العارفة بالموجود، وغابت ذاته فى جملة تلك الذوات وتلاشى الكلّ واضمحلّ وصار هباء منثورا ولم يبق إلا الواحد الحقّ الموجود الثابت الوجود، واستغرق فى حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولا تعلّق قلبك بوصف أمر لم يخطر على قلب بشر فإن كثيرا من الأمور التى قد تخطر على قلوب البشر يندر وصفها فكيف بأمر لا سبيل إلى خطوره على القلب ولا هو من عالمه ولا من طوره. . ومن رام التعبير عن تلك الحال فقد رام مستحيلا. وأقول إنه لما فنى عن ذاته ولم ير فى الوجود إلا الواحد الحىّ القيوم وشاهد ما شاهد، ثم عاد إلى ملاحظة الأغيار عندما أفاق من حاله تلك التى هى شبيهة بالسّكر فخطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحقّ تعالى وأنّ حقيقة ذاته هى ذات الحق وأن الشئ الذى كان يظنّ أولا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئا فى الحقيقة، بل ليس شئ إلا ذات الحقّ، وأن ذلك بمنزلة نور الشمس الذى يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها، فإنه وإن نسب إلى الجسم الذى ظهر فيه فليس هو فى الحقيقة شيئا سوى نور الشمس، وإن زال ذلك الجسم زال نوره وبقى نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه لما قد كان بان له من أن ذات الحق عز وجلّ لا تتكثّر بوجه من الوجوه».
وابن طفيل فى هذه القطعة من قصته يصور تصويرا رائعا شعور المتصوفة بانمحائهم فى ربهم وفنائهم فيه. ولروعة القصة ترجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة، ومن أقدم ترجماتها ترجمة بوكوك لها فى أوكسفورد إلى اللاتينية بعنوان الفيلسوف الذى علم نفسه بنفسه مع نصها العربى سنة ١٦٧١ وترجمت إلى الهولندية سنة ١٦٧٢ وترجمها أوكلى إلى الإنجليزية سنة ١٧٠٨ وعلى ضوئها كتب دانييل ديفو قصته:«روبنسن كروزو».
وترجمها إلى الألمانية إنجهورن سنة ١٧٨٢ وترجمها بونس بويجس إلى الأسبانية سنة ١٩٠٠ وترجمها بتروف إلى الروسية سنة ١٩٢٠ وترجمها بالنثيا إلى الإسبانية سنة ١٩٣٤ وأعاد ترجمتها سنة ١٩٤٨ وترجمها إلى الفرنسية ليون جوتييه سنة ١٩٠٠ ثم أعاد ترجمتها سنة ١٩٣٦ وزعم المستشرق الإسبانى المعاصر غرسية غوميس فى بحث نشره