«الإنسانية أفق، والإنسان متحرك إلى أفقه بالطبع، ودائر إلى مركزه، إلا أن يكون مؤوفا (معلولا) فى طبيعته، مخلوقا بأخلاق بهيمية. ومن رفع عصاه عن نفسه، وألقى حبله على غاربه، وسيّب هواه فى مرعاه، ولم يضبط نفسه عما تدعوه إليه طبيعته، وكان ليّن العريكة لاتباع الشهوات الرديئة، فقد خرج عن أفقه، وصار أرذل من البهيمة بسوء إيثاره».
ولو أننا لم نعرف أن هذه الفقرة مترجمة عن أرسططاليس ما تنبهنا إلى ذلك لصياغتها العربية المحكمة، وما يجرى فيها من رونق الصياغة الأدبية كما هو واضح فى مثل قوله:
«ومن رفع عصاه عن نفسه، وألقى حبله على غاربه، وسيّب هواه فى مرعاه». وهى استعارات وكنايات بيانية. وأرسططاليس فى الفقرة يشير إلى ما ذهب إليه من أن الإنسان مكوّن من طبيعة هى البدن وما يتصل به من الملذات، وهى تصلح وتفسد، وأيضا من النفس التى لا تبلى والتى يترقى بها الإنسان ويكمل. وابن زرعة يترجم حقا، ولكنها ترجمة أشبه بأن تكون من إنشائه ابتداء، ولذلك تصبح الفقرة، وكأنها وصية أو نصيحة لواعظ-كما لاحظ أبو سليمان المنطقى السجستانى-يريد بها للإنسان أن يصلح من طبيعته الأمارة بالسوء ولا يستجيب إلى شهواتها ومآربها المادية. ولم ينقلها مترجم يعرف العربية فحسب، بل ترجمها أديب يتذوق أساليب العربية ويفقه دقائقها وخصائصها البيانية.
ويشيد ابن أبى أصيبعة فى كتابه طبقات الأطباء ببلاغة كثيرين منهم ومن العلماء بالرياضيات والطبيعيات، ويسوق لهم أشعارا كثيرة.
وشملت هذه الصياغة المحكمة الفلسفة، ويخيل إلى الإنسان أنها كانت قد أصبحت فى القرنين الرابع والخامس للهجرة قوتا أو غذاء عاما للشعب، بحيث لم تقتصر على الطوائف العليا والوسطى فى المثقفين، بل اتسعت حتى احتوت الطوائف الدنيا، وذكرنا فى الفصل الثانى دليلا قويّا على ذلك هو أن جماعة إخوان الصفا السرّيّة التى كانت تدعو فى البصرة إلى المذهب الإسماعيلى لجأت إلى الفلسفة والعلوم فى صنع رسائل اتخذتها وسيلة لنشر هذا المذهب، ولو أنه استقر فى نفسها أن العلوم والفلسفة معا يرتفعان عن مدارك العامة ما لجأت إلى هذه الوسيلة ولعرفت منذ أول الأمر أنها وسيلة قاصرة فكفّت عنها، أما وقد تمادى إخوان الصفا فيها ومضوا يدسّون رسائلهم فى دكاكين الوراقين ببغداد والبصرة فإن ذلك دليل حى على تعلق العامة بمعرفة الفلسفة، وسنرى عما قليل مناظرة بين زعيمهم المقدسى والحريرى فى دكان حمزة الوراق بشارع الوراقين فى بغداد، تتناول الأسس