والغايات التى من أجلها كتبت رسائل إخوان الصفا، وقد عمل المقدسى ورفيقه زيد بن رفاعة على إذاعتها ونشرها ببغداد.
وأخرى ألممنا بها فى فصل الثقافة وهى تدل على أن الفلسفة أصبحت فى القرن الرابع الهجرى شائعة مشتركة بين الناس أو قل بين البغداديين، وهى كثرة المنتديات التى كانت تثار فيها مسائلها، ومثلنا لذلك بندوة أبى سليمان المنطقى السجستانى، وذكرنا من كان يؤمها من علية المتفلسفة، وكان وراءهم آخرون دونهم فى الرتبة، يؤمون داره كل يوم. وكان كثيرا ما يلقى سؤال وتدور حوله محاورة كبيرة، كل متفلسف يرى فيها رأيا يدلى به، ثم يكون الرأى الأخير لأبى سليمان، وكأنه المنارة الهادية. وقد استطاع أحد تلاميذه وهو أبو حيان التوحيدى-كما مرّ بنا-أن يجمع طائفة كبيرة من هذه المحاورات الفلسفية، وسماها المقابسات أى المحاورات، وكأنما ارتضى لها كلمة المقابسة لتدل على أن كل من كان يحضر الندوة ويحاور فيها كان يقتبس من فكر صاحبه. وكأنما استحال بينهم الفكر الفلسفى إلى ما يشبه نارا كل يقبس منه حسب استطاعته، وقد بلغت المقابسات مائة وستا فى نحو أربعمائة صفحة كبيرة، وهى أشبه بدائرة معارف فلسفية تضم مباحث عميقة فى الإلهيات والطبيعيات والنفس والعقل والأخلاق والأدب والبلاغة. ويمكن أن ندخل متفلسفة القرن الرابع فى هذه الندوة وغيرها فى دائرة الفارابى وتلاميذه، فقد مضوا جميعا فى إثره يعنون بالإلهيات وبمنطق أرسطو وبالنفس والعقل متأثرين بنظرية الفيض التى بثّتها الأفلاطونية الحديثة، وهى مبثوتة فى كلام أبى سليمان وتلميذه النّوشجانى، وقد عرض لها الأخير فى المقابسة السادسة والثلاثين ولا نرى أحدا يراجعه مما يدل على إيمانهم بها جميعا.
وفى مواضع كثيرة من المقابسات نرى أبا سليمان وغيره من تلاميذه يرفعون من شأن الدين، وقد حاول هو وبعض مريديه مرارا وتكرارا أن يدفعوا الفكرة أو النظرية التى قامت عليها رسائل إخوان الصفا، وهى الوصل بين الفلسفة والشريعة، كما مر بنا فى فصل الثقافة ونقضوها عليهم نقضا، وصوّر أبو حيان فى كتابه الإمتاع والمؤانسة ردّ أبى سليمان عليهم (١)، وهو رد مفحم رائع أوضح فيه أن مرد الشريعة إلى الله والوحى ومرد الفلسفة إلى الرأى والعقل، ونعرض حانبا من رده لنرى قدرته البيانية، يقول:
«الشريعة مأخوذة عن الله عزّ وجلّ بواسطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحى وباب المناجاة، وشهادة الآيات وظهور المعجزات، على ما يوجبه العقل تارة، ويجوّزه
(١) الإمتاع والمؤانسة ٢/ ٦ - ١٨ وانظر فى أبى سليمان ص ٢٨٥ السابقة.