تارة، لمصالح عامة متقنة، ومراشد تامة مبيّنة، وفى أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه (كالبعث) ولا بد من التسليم للداعى إليه والمنبه عليه، وهناك يسقط لم؟ ويبطل كيف؟ ويزول: هلاّ، ويذهب لو وليت فى الريح، لأن هذه المواد عنها محسومة واعتراضات المعترضين عليها مردودة، وارتياب المرتابين فيها ضار، وسكون الساكنين إليها نافع. . وأساسها على الورع والتقوى، ومنتهاها إلى العبادة وطلب الزلفى. ليس فيها حديث المنجم فى تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك. . ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر فى آثارها. . ولا فيها حديث المهندس. . ولا فيها حديث المنطقى. . فعلى هذا كيف يسوغ لإخوان الصفا أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة فى طريق الشريعة. . وكما لم نجد فى هذه الأمة من يفزع إلى أصحاب الفلسفة فى شئ من دينها، كذلك أمة عيسى عليه السلام، وهى النصارى، وكذلك المجوس. . فأين الدين من الفلسفة؟ وأين الشئ المأخوذ بالوحى النازل من الشئ المأخوذ بالرأى الزائل؟ . .
وبالجملة النبى فوق الفيلسوف والفيلسوف دون النبى، وعلى الفيلسوف أن يتّبع النبى وليس على النبى أن يتبع الفيلسوف، لأن النبى مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه. ولو كان العقل يكتفى به لم يكن للوحى فائدة ولا غناء، على أن منازل الناس متفاوته فى العقل بأسره لواحد منا وإنما هو لجميع الناس. . والنبى يقول أمرت وعلّمت وقيل لى وما أقول شيئا من تلقاء نفسى، والفيلسوف يقول رأيت ونظرت واستحسنت واستقبحت، والنبى يقول: معى نور خالق الخلق أمشى بضيائه، وهذا يقول معى نور العقل أهتدى به، والنبى يقول:
قال الله تعالى وقال الملك، وهذا يقول قال أفلاطون وسقراط. .».
وواضح أن أسلحة أبى سليمان من المنطق والتفلسف أسلحة حادة، فقد فصل بوضوح بين الدين أو الشريعة وبين الفلسفة، فالدين مرجعه الوحى والفلسفة مرجعها العقل، والدين مرجعه الله والفلسفة مرجعها آراء الفلاسفة، وهى تتفاوت وتختلف باختلافهم، والشريعة مستغنية عن الفلسفة بكل فروعها. والنبى فوق الفيلسوف، والشريعة تدعو إلى التقوى والورع ولا شأن للفلسفة بذلك. ولعل وصل إخوان الصفا بين الشريعة والفلسفة هو الذى دفع أبا سليمان وغيره من أفراد مدرسته إلى مهاجمة المتكلمين، لأنهم صدروا فى مباحثهم الكلامية كثيرا عن هذا الوصل وما يتصل به من التوفيق، وكأن أبا سليمان أحسّ أنهم هم المسئولون عن هذا العمل المغرض الذى يراد به الدعوة إلى المذهب الإسماعيلى الشيعى الغالى غلوّا شديدا، ولذلك مضى يهاجمهم مهاجمة عنيفة-كما نقل عنه أبو حيان