للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى المقابسات-قائلا إنهم يعتمدون على الجدل والمغالطة ومحاولة إسكات الخصم والإيهام مع قلة تألّه وسوء ديانة. ومن المؤكد أن وصفهم بقلة التأله وسوء الديانة فيه مبالغة، وقد يكون اتفق له منهم من رأى فيه انحرافا عن الدين، وكان ينبغى أن لا يعمّم حكمه. على كل حال إنما أردنا بما اقتبسناه من كلامه عن إخوان الصفا والوصل بين الشريعة والفلسفة أن ندل على أن لغة المتفلسفة فى العصر صبغت بأصباغ أدبية واضحة، إذ يعرف أبو سليمان كيف يصطفى ألفاظه، وكيف يجرى فيها ترادفا بديعا يجعل لوقعها على الآذان جمالا، وكيف ينسق عباراته ويأتى بها قصيرة متلاحقة. ونقرأ فى المقابسات قطعا فلسفية أدبية للكثيرين من تلاميذه ورفاقه مثل النّوشجانى الذى نراه يستدل على الحياة بعد الموت على هذا النمط (١):

«إذا كان صنف من أصناف الموجود فى حكم المعدوم لخساسته، ونقصه وتهافته، وفساد طبيعته، وطموس ضيائه، وقبح صورته، وانمحاء بهجته، وخمود شعاعه، وفقد تمامه، وتقطّع نظامه، واستيلاء رذيلته، وبطلان فضيلته، فلا تنكر أن يكون فى مقابلته وبإزائه صنف آخر من المعدوم فى حكم الموجود لصحة صورته، ونفاسة جوهره، وكمال فضيلته، وظاهر عفته، وبهاء هيئته، وغلبة عدالته، ونقاء سنخه، وصفاء سوسه (٢)، وطهارة ذاته، وظاهر زينته، ودوام نضرته، وتناسب جملته وتفصيله، وسائر ما لا يحيط القول به. . فإنك متى حويت هذه المعانى. . اكتنفتك الخيرات عاجلا، والسعادات آجلا. فتكون حينئذ موجودا وإن عدمت، وباقيا وإن فنيت، وحاصلا وإن فقدت، وثابتا وإن نفيت، وحيا وإن مت، وظاهرا وإن بطنت، وجليّا وإن خفيت، وواضحا وإن أشكلت، وشاهدا وإن غبت، وقادرا وإن عجزت. .

هنالك تصل إلى غنى بلا قنية (٣)، وتنطق بلا عبارة، وتفعل بلا آلة، وتصيب بلا مشورة، وتعقل بلا مقدمة، وتبقى بلا آفة. . وتسعد بلا شوب. إلهية ورثتها من البشرية، وربوبية وصلت إليها بالعبودية».

ويمضى النوشجانى فيقول لمنكر الحياة بعد الموت إنك إنما تنكرها حين تنظر إلى شخص فى إسار الحس وقشور البدن مع فساد العقيدة والعكوف على الشهوات المهلكة، فتقول متى يكون لهذا رجوع وحياة بعد الموت؟ وكان حريّا به أن يباين هواه ويختار الحق ويؤثر الخير إذن تكون السعادة غايته، والأبد نعته ونهايته. وصياغة النوشجانى رائعة بما فيها من


(١) المقايسات (طبعة بغداد): المقايسة السادسة والأربعون وانظر فى النوشجانى المقايسات ٢٩، ٣٦، ١٠٦.
(٢) السوس والسنخ: الأصل.
(٣) القنية: ما يكتسب من المال ويقتنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>