للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جمال الجرس فى الأداء الناشئ عن قصر العبارات وحسن انتخاب الألفاظ وما يجرى فيها من ترادف بديع وقدرة على التناسق فى الكلمات والصيغ وسيلانها، بل تدفقها، بالفكر الصافى الخالى من الشوائب. وهو ما نقوله إن النثر الفلسفى فى هذا العصر التقى بالأدب والتمع فى أثنائه وعلى حواشيه، فغدا يروع السمع كما يروع الفكر والذهن.

وطبيعى فى هذه الأثناء أن تزدهر المناظرات، وأن تشيع فى كل مجلس وبين العلماء والأدباء، وقد اشتهر مجلس المهلبى ببعض مناظرات بين الحاتمى والمتنبى على نحو ما يوضح ذلك الحاتمى فى رسالته «الموضحة» واشتهر عضد الدولة البويهى بما كان يعقد من مناظرات بين العلماء فى مجالسه، ويحدثنا القاضى عياض فى ترجمته (١) للباقلاّنى عن مناظرته بحضرة عضد الدولة للأحدب رئيس معتزلة بغداد حول تكليف ما لا يطاق، ومناظرته بحضرته أيضا لأبى إسحق النّصيبينى رئيس معتزلة البصرة حول رؤية الذات العلية. وكانت المناظرات لا تزال ناشبة بين أصحاب الطب وغيره من علوم الأوائل حتى لنجد طبيبا بغداديّا فى القرن الخامس الهجرى هو ابن بطلان يرحل إلى مصر لمناظرة ابن رضوان الطبيب المصرى والحوار معه (٢). وما لنا نذهب بعيدا ومنتدى أو ندوة أبى سليمان المنطقى السجستانى فى القرن الرابع الهجرى كانت تعج بالحوار والجدال فى كل فروع الفلسفة ومسائلها الدقيقة. ولم تكن المناظرات تقتصر على الندوات أو على المساجد، بل كانت أيضا تجرى فى الأسواق وخاصة سوق الوراقين حيث يلتقى أصحاب المذاهب والآراء، فتنشب بينهم معارك الجدل والمناظرة، من ذلك المناظرة الطريفة التى حكاها أبو حيان بين شخص يسمى الحريرى كان يأخذ بشئ من الفلسفة والفكر الدقيق وبين المقدسى أبى سليمان محمد بن معشر البيستى الرازى مخرج رسائل إخوان الصفا كما أسلفنا فى فصل الثقافة، ولذلك نسبها إليه أبو سليمان المنطقى السجستانى كما مرّ بنا، وكان لا يزال يرى ببغداد فى ندوته، وفى شارع الوراقين. وكان الرأى العام السائد هناك يعارض نظريته فى التوفيق بين الشريعة والفلسفة، ولعلهم كانوا يعرفون مقصده الذى نبهنا إليه مرارا، وكانوا يتعرّضون له فلا يراهم أهلا للجواب، حتى كان يوم-وهو يتجوّل فى الوراقين-تعرّض له فيه الحريرى غلام ابن طرّارة وهيّجه بما أورد عليه من أدلة، مما جعله يندفع قائلا (٣)

الشريعة طبّ المرضى والفلسفة طب الأصحاء، فالأنبياء يطبّون للمرضى حتى


(١) انظر هذه الترجمة فى نهاية كتاب التمهيد للباقلانى (نشر دار الفكر العربى بالقاهرة) ص ٢٤٦.
(٢) راجع القفطى ص ٢٩٨، ٤٤٤ وابن أبى أصبيعة ص ٣٢٥ وما بعدها.
(٣) الإمتاع والمؤانسة ٢/ ١١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>