للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفلسفة. وكانت شهرة المعتمد بن عباد قد طبقت الآفاق برعايته للشعراء، ونراه يفد على إشبيلية يريد أن يحظى بشئ من هذه الرعاية، ويلزم الأعلم الشنتمرى ويختلف إلى حلقته، ويعجب به ابن وهبون، وكان فيه-مثل ابن سيده-نزوع إلى الفلسفة، فلعله أيضا كان من أسباب اهتمامه بها. وقدّم الأعلم قصيدة له إلى المعتمد بن عباد فطار بها وزيره ابن عمار، ووصله بالمعتمد، وأعجب به بدوره، فقصره على هواه، ولم يرحل إلى أمير من أمراء الطوائف سواه، وظل عنده إلا أياما كان يرحل فيها كل سنة إلى مرسية مسقط رأسه يتعهد فيها أهله، حتى إذا استنزل يوسف بن تاشفين أمير المرابطين المعتمد من عرش إمارته ونفاه إلى أغمات خرج من إشبيلية متجها إلى مرسية، وبالقرب منها سنة ٤٨٤ للهجرة لقى قطعة من خيل النصارى فاشتبك معهم، وكتبت له-على ايديهم- الشهادة. ويتميز شعره بمسحة التأمل والبعد فى الفكر والعمق فيه بتأثير قراءاته الفلسفية، وتوفى أستاذه الأعلم الشنتمرى سنة ٤٧٦ فبكاه بمرثية حارة استهلها بتأملات عميقة فى الحياة والموت منشدا:

نفسى وجسمى إن وصفتهما معا ... آل يذوب وصخرة خلقاء (١)

لو تعلم الأجبال كيف مآلها ... علمى لما امتسكت لها أرجاء

إنا لنعلم ما يراد بنا فلم ... تعيا القلوب وتغلب الأهواء

طيف المنايا فى أساليب المنى ... وعلى طريق الصحّة الأدواء

وهو يقول ما الحياة؟ إن نفوسنا فيها سراب يذوب وأجسامنا صخرات ملساء لا تلبث أن تمسّها يد الفناء، وحتى صخرات الجبال لو علمت حقيقة أنها لا بد أن تتداعى يوما لما تماسكت لها أرجاء، ويقول إنا نعلم مصيرنا إلى الموت والفناء فلم نكلف قلوبنا ما تعيا به وتشقى؟ ولم تغلبنا الأهواء والشهوات؟ ، وتلك أطياف الموت وأشباحه تتراءى لنا فيما نحاول ونحقق من أمانى، وتلك الأدواء والأمراض كأنها تنتظر الأصحّاء. ويستمر فى إنشاده:

ماذا على ابن الموت من إبصاره ... ولقائه هل عقّت الأبناء

لم ينكر الإنسان ما هو ثابت ... فى طبعه لو صحّت الآراء

دنف يبكّى للصحيح وإنما ... أمواتنا-لو تشعر-الأحياء

ما النفس إلا شعلة سقطت إلى ... حيث استقلّ بها الثّرى والماء


(١) خلقاء: مصمتة ملساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>