للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفساد فى القيم شاعا فى حياة الدولة وفى حياة الناس. وكان الشك يتسلط على نفوس كثيرين وتتسلط معه ألوان الإلحاد والزندقة، وكان الكرخ مليئا بالحانات وبدور النخاسين، والشعراء المجّان يغدون ويروحون ليل نهار، وبعض الجوارى لم يكنّ يعرفن حشمة ولا وقارا إنما كنّ يعرفن اللهو والابتذال. وكانت هناك الديارات متناثرة حول بغداد وعلى طول الطرق إلى البصرة والكوفة جنوبا والموصل شمالا، وكانت مفتوحة الأبواب للشعراء دائما لا فى الأعياد المسيحية فحسب.

بل طوال العام، فهم يلمّون بها ويتناولون الخمر منها، وقد يعكفون على الشرب فيها أياما متصلة. وكل ذلك عمل على أن يكثر بين الشعراء أصحاب الخلاعة والمجون فى أسوأ صورهما، حتى لنجد كثيرين يتغزلون غزلا شاذّا بالغلمان، وصمة ظلت فى هذا العصر كما كانت فى العصر الماضى، وكثير من هذا الغزل كان ينظم فى أثناء السكر وشرب الخمر، للضحك والفكاهة، ولكن تبقى بقايا وراء ذلك تصوّر الفساد الخلقى فى أبشع صوره. وحقا لا نجد خليفة تورط فى حب غلام، ولكن أيضا كان كثيرون منهم يعكفون على الملاهى والملذات، وكانت قصورهم تطفح بجماعات المجان فى صورة ندماء ومضحكين، وأكثرهم كانوا مجّانا محترفين. وفى كل مكان نلتقى بهذه الجماعات أو العصابات، وكانوا يتعاشرون ويترافقون تارة فى الديارات وتارة فى دور النخاسين أو فى الحانات أو فى بيوتهم، ومن أهمهم جماعة أو عصابة أبى هفان ومحمد بن الفضل ومحمد بن مكرم وأبى على البصير وأبى العيناء، وفيهم يقول المرزبانى: كانوا يتعاشرون وكانوا شياطين العسكر فى الظرف والمجون (١)، ومنهم جماعة أبى السفاح الأنصارى وعبد الله بن رضا وإسماعيل بن يوسف، وقد تعاهدوا ألا يقولوا شعرا إلا فى صفة الخمر. ويقول ابن المعتز إنهم ظلوا على ذلك إلى أن ماتوا (٢). وكان لشيوع مجالس الخمر حينئذ أثرها فى ظهور كتابات كثيرة عن آداب المنادمة والنديم، ومما اشترطوه لها قلة الخلاف والمعاملة بالإنصاف والمسامحة فى الشراب والتغافل عن رد الجواب وإدمان الرضا واطّراح ما مضى وإسقاط التكليف وستر العيب وحفظ الغيب. ونعرض لبعض هؤلاء الشياطين وخمرياتهم فمنهم أبو العيناء الضرير. وكان ظريفا لسنا سريع الجواب، واتخذه


(١) معجم الشعراء ص ٣٩٨.
(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>