وانصرف فى كهف بها على شاطئ النهر للنسك والعبادة، واختلف مع شيخه الصوفى الشيخ محمد شريف إذ وجده يحتفل فى ختان أحد أبنائه بصور من اللهو لم يستسغها تصوفه، وبحث عن شيخ آخر من أصحاب طريقته السمانية جدّد عليه العهد. وكانت أسرته تذكر أنها من سلالة الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخذ يكاتب مشايخ الطرق وبعض العلماء سرا بأنه المهدىّ المنتظر الذى بشّر به الرسول، وأعلن لهم أن الله خصّه بذلك لنصرة الإسلام وأن النصر سيلازمه، وأخذ مريدوه من السودانيين يتكاثرون ويلتفون حوله، ولما اتسعت دعوته أرسلت إليه الحكومة قوة إلى جزيرة أبا فاستطاع بمن معه من الدراويش أن يقهرها ورأى المهدى أن يخرج من تلك الجزيرة لأنها مكشوفة ولا تساعده على التحصن ضد القوة الكبيرة التى سترسلها الحكومة واتجه إلى منطقة تقلى فى كردفان ونزل فى جبل قدير واستقر به، ووجّه إليه مدير فاشودة قوة لقتاله وقضى عليها، وعقب هذه الهزيمة لقوات الحكومة طلب رءوف باشا حاكم السودان إمدادات عسكرية من مصر وكان العرابيون يسيطرون على الوزارة، فرأوا إرسال عبد القادر باشا حلمى، وقبل وصوله تألف جيش بقيادة يوسف باشا الشلالى لمنازلة المهدى سنة ١٢٩٩ هـ/١٨٨٢ م فى مستقره بجبل قدير، وهزم هذا الجيش مثل الحملتين السابقتين له، وأكسبه هذا النصر أنصارا كثيرين، وثار كثيرون معه فى الجزيرة ولكن الحكومة أخمدت ثوراتهم وأعاد إلى الجزيرة عبد القادر باشا حلمى الهدوء. وفى سنة ١٣٠٠ هـ/١٨٨٣ م هاجم مدينة الأبيض واستولى عليها واتخذها مقرا له، وجاءه مريدون كثيرون من أنحاء السودان يريدون رؤية «ولى الله».
وكان الإنجليز قد احتلوا مصر فأرسلت حكومة الاحتلال عشرة آلاف جندى بقيادة هكس باشا الإنجليزى وهاجمت المهدى فى الأبيض وأبيدت إبادة تامة، وغنم الأنصار أتباع المهدى غنائم كثيرة، وأخذت الوفود تفد من جميع أنحاء السودان لمبايعة المهدى وأخذ النساء فى الأفراح وفى أعمالهن من احتطاب وغيره يتغنين بالمهدى ومناقبه، واضطربت الحكومتان المصرية والإنجليزية ورأى الإنجليز جلاء المصريين عن الخرطوم. وفى ديسمبر سنة ١٨٨٣ للميلاد استسلم للمهدى الضابط النمساوى سلاتين باشا حاكم دارفور باسم الحكومة المصرية بعد أن ظل ينازل أتباعه سنة كاملة دون جدوى. وعادت إنجلترا للضغط على مصر بالجلاء عن السودان وأصرّ شريف باشا على الاحتفاظ بالسودان، واستقال فى أوائل يناير سنة ١٨٨٤ وخلفه نوبار باشا، ورأت الحكومة فى إنجلترا أن غوردون هو الذى يمكنه إنقاذ الموقف وإجلاء الجنود المصريين عن السودان، فقبل المهمة ظانا أنه يتمتع بشخصية شعبية فى السودان ونسى أنه أغضب كثيرين منهم لمكافحته تجارة الرقيق، ولم يكن يتصور مدى الحماسة الدينية التى أشعلها المهدى فى نفوس السودانيين، ووصل الخرطوم فى فبراير سنة ١٨٨٤ وأرسل توا إلى المهدى خطابا يعينه فيه ملكا على كردفان وأعلن فيه أنه يبيح تجارة الرقيق، وأجابه