وموقف سابع هو العفو عن الظالم، فهو لا يلقى الإساءة بالإساءة إذ يجد فى ذلك وقودا لتهييجها، وإنما يلقاها بالعفو والرفق والبر والرحمة مطفئا نار الجهل بالحلم وموجدة الغضب بالصفح. وهى خصلة من خصال الإسلام الرفيعة حث عليها الذكر الحكيم بمثل قوله: {(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ)} وقوله: {(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)} وقوله: {(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)}. وإنما أراد الإسلام بذلك أن يزرع البرّ والمحبة فى قلوب المسلمين بعفو بعضهم عن بعض، مع وعده لهم على هذا الصنيع بالأجر والمثوبة الحسنة.
وعن كل ذلك صدر محمود فى تصوير عفوه عن بعض ظالميه قائلا:
إنى وهبت لظالمى ظلمى ... وغفرت ذاك له على علم
ورأيته أسدى إلىّ يدا ... لما أبان بجهله حلمى
رجعت إساءته عليه وإح ... سانى إلىّ مضاعف الغنم
وغدوت ذا أجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم
وكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسئ إليه فى الحكم
ما زال يظلمنى وأرحمه ... حتى رثيت له من الظّلم
وهذه المواقف الزهدية المختلفة لمحمود توضح غزارة فكره وأنه كان يستمد من معين عقلى وروحى لا ينضب، فهو تارة يرغب فى محاسن الأخلاق والشيم وتارة يعظ ويذكر ناصبا الموت أمام أعين الناس حاثّا لهم على الإعراض عن الدنيا ومتاعها الفانى والتوكل على الله والرضا بقضائه واتخاذ العدة للقائه، وقد توفى فى حدود المائتين والثلاثين أو بعدها بقليل.